بقلم: د. محمود خليل
الشخصية الأدهمية نهازة للفرص، خصوصاً عندما تنتابها الرغبة فى التآمر. كذلك كان الخديو توفيق، فقد وصل «رياض باشا» رئيس حكومته إلى مستوى من القوة حالت بين شخصية الخديو الضعيفة والمواجهة المباشرة معه. وقد وجد فرصة سانحة للنيل منه عبر الاتصال بعرابى ورفاقه، واستعان فى ذلك بياوره على بك فهمى، وهو ضابط فلاح، لكنه التحق بخدمة الخديو عن طريق زوجته الشركسية، ذهب على فهمى إلى عرابى ورفاقه وأقنعهم بأن الخديو معهم ويحذرهم من التدابير السيئة التى يتخذها رياض ووزيره عثمان رفقى ضدهم. وعندما احتدم الأمر بين عرابى وحكومة رياض اقترح الخديو القبض على عرابى ورفاقه، فى الوقت الذى رفض فيه رئيس الحكومة ذلك!.
تمكن عرابى فى نهاية هذه الجولة من خلع الجركسى عثمان رفقى ناظر الحربية، وكانت هذه الخطوة محل إعجاب من «الأداهم الصغار» الذين تعج بهم قرى مصر وعاصمتها. أعجبهم فى «عرابى» قدرته -رغم أنه فلاح بسيط مثلهم- على تحدى الحكومة وإجبارها على ما يريد، استعادت الذاكرة الأدهمية وهى تتابع أحداث عام 1881 حكايات أبوزيد الهلالى وعنترة وغيرهما من الفرسان الذين أنبتهم الضعف، فأحالوا ضعفهم إلى قوة، وانتصرت إرادتهم على إرادة الكبار. يسجل «بلنت» أنه بعد أيام من النصر الذى حققه عرابى على عثمان رفقى: «بدأت الالتماسات على اختلاف أنواعها تنهال على عرابى من أولئك الذين ظلموا وراحوا يسعون إليه لإنصافهم». ما يصفه «بلنت» فى كتابه «التاريخ السرى لاحتلال الإنجليز لمصر» لا يختلف كثيراً عن الوصف الذى قدمه نجيب محفوظ للفتوة العادل «جبل» (الحكاية الثانية من أولاد حارتنا) حين تمكن وهو الضعيف من قهر فتوات ناظر الوقف فتعلق به مساكين الحارة وشكوا إليه ما حاق بهم من ظلم ليرفعه عنهم.
عاش «توفيق» إحساساً متأرجحاً بين الغيرة من شعبية عرابى والرغبة فى استخدامه كإحدى أدوات صراعه مع رياض باشا. وفى واحدة من لحظات ضعفه المتعددة استجاب لرياض باشا وخلع محمود سامى البارودى من نظارة الحربية فكانت مظاهرة 9 سبتمبر 1882 الشهيرة. تكاثر الأداهم المصريون واحتشدوا وراء عرابى الذى سيطر هو ورفاقه على ساحة عابدين واستجاب الخديو لمطالبه، وازداد عرابى قوة على قوة وشعبية على شعبية. يسجل «بلنت» أن المصريين بلغوا يومها قمة السعادة والفرحة إلى حد أنهم كانوا يوقف بعضهم بعضاً فى الشوارع، على الرغم من عدم تعارفهم، لكى يتعانقوا ويفرحوا ويبتهجوا للنصر الذى حققه عرابى.
الانتصارات المتتالية لعرابى لعبت برؤوس البسطاء من الأداهم، لم يكن هؤلاء منشغلين بما انشغل به المثقفون وما انخرطوا فيه من جدل حول الدستور وتمثيل الأمة والحكم الرشيد. غرق البسطاء فى لحظة انبهار فريدة بهذا الفلاح المصرى الذى تمكن من قهر الأقوياء، وأصبح أملاً لهم فى التخلص من تجاربهم المظلمة مع ظالميهم، وأسكرت رؤوسهم خطب عبدالله النديم -خطيب الثورة العرابية- التى غازلت شوقهم إلى العدل، وأجمع «الأداهم» أمرهم على أنه لم يعد بينهم وبين العيش فى ظلال الفتوة العادل سوى خطوة، مؤكد أن الفارس «عرابى» سيخطوها ممتطياً صهوة جواده.