بقلم: د. محمود خليل
«أدهم» ابن اللحظة، يتحرك بظرفها وضغوطها، يرفع شعار «وقت الله يعين الله». لذا تجده لا ينفق الكثير من الوقت فى التفكير والتدبير والتخطيط، بل يتحرك بوحى اللحظة فى الأغلب، لذلك فقد تأتى أفعاله نحو الموضوع أو الشخص الواحد متناقضة تبعاً لتغير الظروف وتبدل الأحوال واختلاف اللحظات. فاللحظة وظرفها هى «أم أدهم وأبيه» وهى الأساس فى تحديد سلوكياته فى المواقف المختلفة.
اختلف محمد نجيب مع الضباط خلال مراحل مختلفة من تطور الأحداث منذ قيام الحركة المباركة وحتى مارس 1954. «نجيب» كان يؤكد باستمرار زهده فى الحكم ورغبته فى ترك الفرصة للأحزاب السياسية لتقوم بدورها فى النهوض بعبء إدارة البلاد بعد أن تطهر نفسها!. ووعد الشعب بإجراء انتخابات برلمانية فى فبراير 1953 (لم تجر بالطبع)، وعندما شعر بنوع من التهميش من جانب رفاقه فى مجلس قيادة الثورة أخذ يناور عليهم بورقة الديمقراطية. ويستغرب القارئ لتفاصيل هذه الفترة من موقف الرجل الذى كان ينادى بالديمقراطية فى وقت صدّق فيه على قرار اعتقال لما يقرب من 70 من رجال السياسة فى العصر الملكى، لم توجه إليهم تهم محددة، واعتبره إجراءً احترازياً، وبعدها كانت واقعة كفر الدوار وتصديقه على إعدام مصطفى خميس ومحمد حسن البقرى. ومن اللافت أن الأستاذ سيد قطب كان من أكثر المحرضين حينذاك على إعدام «خميس» و«البقرى»، وكانت وجهة نظره أن مجلس قيادة الثورة لا بد أن يتعامل بأقصى درجات الحسم والحزم مع من يلعبون ضده فى الظلام. ومن عجب أن «عبدالناصر» كان أكثر من استوعب واستفاد من نصيحة سيد قطب عام 1954، وطبقها أول ما طبقها على «قطب» وإخوانه!.
فى كل الأحوال لا نستطيع أن نحدد بشكل قاطع هل كان «نجيب» يؤمن بالديمقراطية بالفعل أم كانت ورقة أحب أن يلاعب بها خصومه فى مجلس قيادة الثورة؟. فى البداية سارت الأحداث فى اتجاه «نجيب». فبعد إلغاء الملكية فى مصر (يونيو 1953) تولى رئاسة الجمهورية بالإضافة إلى رئاسة مجلس الوزراء، لكنه واجه -بمرور الوقت- صراعاً حاداً مع رفاق الحركة المباركة، قرر على أثره الاستقالة من كافة المناصب التى يشغلها وذلك فى فبراير 1954. الشىء اللافت أن «أداهم» الشعب انطلقوا عن بكرة أبيهم إلى الشوارع لما سمعوا بهذا الخبر وتقاطروا من كل حدب وصوب واحتشدوا فى ميدان عابدين (مدعومين بجماعة الإخوان) للمطالبة بعودة «نجيب». تواصلت المظاهرات لثلاثة أيام متتالية وهتف الأداهم فى الشوارع «إما نجيب وإما الثورة» وتداعى لهم أبناء السودان فثاروا مطالبين بعودة «نجيب» ذى الأصول السودانية وهددوا بأن اختفاء «نجيب» سيترتب عليه رفض الوحدة مع مصر. وكانت النتيجة أن عاد اللواء محمد نجيب إلى الحكم. كان «عبدالناصر» أوعى من «نجيب» بطبيعة التركيبة الأدهمية، فمكث غير بعيد، ثم بادر إلى التخلص من الإخوان فى أحداث مارس 1954، ثم أقال محمد نجيب من رئاسة الجمهورية نوفمبر 1954. مؤكد أن الأداهم سمعوا بخبر إقالة «نجيب» الذى ثاروا من أجله منذ بضعة شهور، لكنهم لم يحركوا ساكناً هذه المرة، لأن اللحظة المختلفة أوحت لهم بفعل مختلف. وكأن الحركة عند «الأدهم» لحظة وليست مبدأ.