بقلم: د. محمود خليل
تلبّس «أدهم المصرى» -أيام الحملة الفرنسية- شعور بأن هناك مَن يريد إعادة تنظيم حياته، ويحاول دفعه إلى ترك السلوكيات اليومية التى تعوَّد عليها وتوارثها عن آبائه وأجداده، ويصرخ فيه للقيام من فوق الأرض التى يتمدد عليها، ويطرق سمعه وبصره بأدوات أخرى للحياة غير التى ظن دهراً أنها كل الحياة. كان «أدهم» ببساطة يريد الأمن والعيش، فهما الظرفان الأساسيان اللذان يُهيِّئان له الحياة التى يحبها، شأنه فى ذلك شأن الإنسان فى كل زمان، وإن تطرف فى هذا الأمر أكثر من غيره فلا بأس، وعذره فى ذلك رغبته الجامحة فى تهيئة الظروف والأجواء ليمارس الفضيلة المحببة إلى نفسه والتى حكى عنها نجيب محفوظ على لسان «أدهم» فى الحكاية الأولى من «أولاد حارتنا»، تلك التى تتمثل فى التمدد فى حديقة وعزف الناى أو الاستماع إلى مَن يعزف.
أواخر القرن الثامن عشر تنوعت المشاهد التى تؤشر إلى سعى «أدهم المصرى» وراء معادلة «الحديقة والناى». كان وضع التمدد هو الوضع الأثير لدى الكثير من المصريين، التمدد على الأرائك والأسِرَّة للموسرين، وعلى الحُصر بالنسبة للفقراء، وأمام البيوت بالنسبة للمشردين. المكان الأكثر متعة بالنسبة للمصرى فى ذلك الوقت كان «الحمام البلدى» الذى ينعم فيه بالتمدد و«المساج» واستنشاق رائحة الدخان والأبخرة والعطور. الحلم الأبرز لأى مصرى حينذاك كان فى اقتناء حديقة لتصبح جزءاً من بيته وتكون ملاذاً للتمدد. وأجمل المجالس التى كان يؤسرها هى مجلس «المقهى» حيث يسحب أنفاس الدخان ويحتسى مشروب «القهوة المرة» المفضل لديه. يسجل «دى شابرول» فى كتاب «وصف مصر» أن عدد مقاهى القاهرة خلال فترة وجود الحملة فى مصر كان يقترب من 1200 مقهى، غير مقاهى بولاق (100 مقهى)، ومقاهى مصر القديمة (50 مقهى) فى وقت كان فيه عدد سكان العاصمة (300 ألف نسمة)، ويذكر «شابرول» أن عدد رواد المقاهى فى ذلك الزمان كان يتراوح ما بين 200 و250 ألفاً، وهو رقم يثير العجب!. وأجمل ما كان يستمتع به المصرى فى المقهى هو الاضطجاع على الحصر والتدخين وتعاطى الحشيش والأفيون والاستماع إلى الرواة والمنشدين وهم يعزفون على الناى والربابة. ومن أراد أن يقرأ تفصيلاً عن هذه المشاهد فعليه أن يعود إلى كتاب وصف مصر. تركيبة مزاجية من هذا النوع لا تتحرك إلا تحت الضغط والحرمان من المتع الصغيرة التى تجد راحتها فيها، وقد بادر «شابرول» بعد أن وصف المصرى بالبلادة والخمول إلى لفت النظر إلى أن «ملكة الانتباه والقدرة على التذكر تذهب إلى أبعد مدى عند هؤلاء الذين نخالهم غارقين فى بلادة مطلقة». ربما كان حاضراً فى ذهن «شابرول» وهو يكتب هذه السطور مقاومة المصريين للاحتلال الفرنسى. وقد تجد فى الوصف الذى طرحه الكاتب الفرنسى أيضاً تفسيراً لحالة التمطع التى أصابت «أدهم المصرى» فجأة بعد 4 أعوام من خروج الحملة من مصر عندما صعد بمحمد على باشا إلى سُدة الحكم رغم أنف السلطنة العثمانية.