بقلم: د. محمود خليل
التقيت مع النبيل «محمود صلاح» أشهر محرر حوادث فى بر مصر أكثر من مرة، واستمتعت بالحوار معه. واعتصرنى الألم عندما علمت بوفاته - أظله الله بسحابات رحمته- كما اعتصر غيرى. محمود صلاح رائد فى مجاله، وتستطيع أن تستدل على ذلك بسهولةٍ من غرام أغلب محررى الحوادث فى مصر بتقليد أسلوبه الرائد فى كتابة الحوادث.. لا يختلف اثنان على أن محمود صلاح نحت أسلوباً خاصاً فى تقديم هذا الجانب من الحياة إلى القراء، وكانت له طريقته الفريدة فى نسج اللغة وسرد الأحداث بصورة ارتقت بالقصة الصحفية إلى مرتبة من مراتب القصة الأدبية. وإذا كان الأدب خيالاً، فإن واقع الحياة الذى تنقله القصص الصحفية أحياناً ما يفوق الخيال. لا أريد أن أستطرد كثيراً فى تتبع ملامح التميز ونقاط المهارة على خريطة التجربة المهنية للراحل، فهى معلومة بالضرورة لكل من عمل أو درس مهنة الصحافة، لكننى أريد أن أتوقف أمام شلال الحزن الذى اجتاح الجميع لحظة فقده.
تعلم أن تزاحم العملات الرديئة فى الأسواق يؤدى إلى طرد العملات الجيدة. هذه القاعدة تنطبق على أية مهنة وتنسحب على أى مجال. تخيل أننا فى «سوق خضار» تتراص فيها عربات وأكشاك البيع، وأمام كل منها يقف بائع ينادى على بضاعته كما ينادى البهلول على أشباحه. ووسط هؤلاء يقف بائع يملك بضاعة جيدة لكنه لا يستطيع المزاحمة ولا يجيد «البهللة». فى أسواق الحياة ستجد الكثرة الغالبة من الزبائن تُقبل على بضاعة البهاليل غالية الثمن وضعيفة الجودة، أما الأقل فسوف يشترون من المُجيد الذى يقدم بضاعة جيدة بسعر معقول. فاحتمالات النجاح لمن يمتلك مهارة تسويق نفسه ويجيد النصب على المجموع أعلى بكثير من احتمالات النجاح لمن يقدم بضاعة جيدة، لكنه لا يتقن مهارات التسويق ويعشق الحقيقة. سوف تسأل: ولماذا لا يسوِّق نفسه؟. سأجيبك بأن من يعمل وينتج لا يملك وقتاً للتسويق. إنه ينتظر ببساطة لحظة صدق يحياها الزبائن يدركون فيها مدى حمقهم حين عاشوا ردحاً من الزمان يستهلكون فيه السيئ الذى يوجع بطونهم ويلوث عقولهم ويزهدون فى الجيد القادر على صلب أعوادهم وتنظيف تفكيرهم من «كناسة الأسواق». فى لحظة الصدق تلك يدرك الجميع أن الخبيث والطيب لا يستويان مهما كانت كثرة الخبيث. يقول الله تعالى: «قُل لَّا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ».
عاش محمود صلاح زمناً يحظى بنجومية كبيرة، وكان القراء ينتظرون صباح كل يوم سبت قصته الصحفية الجديدة التى تعالج أبرز حادثة شهدها الأسبوع بشكل يضع الواقعة فى سياقها الإنسانى، ويحكيها بكلمات من لحم ودم، تبث الحياة فى القصة لتصبح جزءاً من الحياة. وشيئاً فشيئاً أخذت السوق تتزاحم بالردىء الذى أفسد ذوق بعض القراء، فأمست قدرتهم على «استطعام الجيد» معدومة. مسألة تثير الحزن والكدر، وذلك ما عانى منه الراحل الكريم أواخر عمره، فمكث فى انتظار لحظة صدق يعيشها الجميع يميزون فيها بين الجيد والردىء، وقد شاء الله أن تأتى وهو يرحل عن عالمنا إلى عالم أفضل. الألم الذى شعر به الكثيرون بوفاة محمود صلاح لا يرتبط بمجرد صعود روحه إلى بارئها. فالموت نهاية كل حى، لكنه يجد سره فى إدراك الحقيقة التى تقول إن الجيد يبقى مهما قصر عمره، وإن فقاعات الرداءة -مهما طال بها العمر- إلى انفثاء!. رحم الله نبيل الصحافة المصرية محمود صلاح.