بقلم: د. محمود خليل
وجانب «اللطف» فى هذا المسلك يتعلق باجتهاد قطاع من «الأداهم» فى تقليد السلطة والاعتماد على نفس الأساليب والأدوات التى ترتكن إليها فى إدارة شأنها الاقتصادى. وقد مثّل اللجوء إلى القروض البنكية المساحة الأهم للتقليد فى هذا السياق. الأدهم اللطيف لم يجد غضاضة فى أن يقترض كما تفعل الحكومة. فانطلق يشترى السكن الذى يحتاجه بقرض بنكى يدفعه فى صورة أقساط ممتدة على 10 أو 15 أو 20 سنة تبعاً لنظام الشركة التى تبيع له، والأمر نفسه ينطبق على تحقيق حلمه فى الحصول على سيارة، وبدأت الأمور تتمدّد بالبعض إلى ساحات أخرى للاقتراض، مثل اقتراض مبالغ للصرف على المصايف وأفراح الأولاد. أخذ كل شىء فى حياة هذا القطاع من الأداهم يتحول إلى «نظام التقسيط». ووصل الأمر إلى حد تقسيط أثمان الموبايلات وياميش رمضان وغير ذلك.
ولا يخفى عليك أن من أقدم على «الحياة بالقسط» من الأداهم تمثل فى هذا القطاع الذى تمكن من العمل فى القطاع الخاص والشركات الاستثمارية وأصبح يحقق دخلاً يسمح له بدفع أقساط القروض، لكن الأمر لم يكن يسلم من هزات ناتجة عن عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية فيتوقف مشروع ويسرّح ما لديه من عمالة، فتكون النتيجة أن يجلس صاحب القسط يضرب كفاً بكف وهو ينظر إلى جيوبه الخاوية على عروشها. أسر أدهمية كثيرة عانت بسبب المسلك الذى سلكه أربابها من أجل إحداث نوع من التوازن بين طرفى معادلة «التطلعات/ القدرات»، وتحركت بالإحساس بالفرح المؤقت بالحصول على ما تتطلع إليه لتظل تعانى بعد ذلك من الأقساط وفوائد الأقساط بصورة أسقطتها إلى شريحة اجتماعية واقتصادية أدنى.
ثقافة التطلع والنزعات الاستهلاكية التى غذّاها عصر «مبارك» أدت إلى ضرب الكثير من القيم الأدهمية الراسخة التى كانت تعتبر الدين «هماً بالليل وذلاً بالنهار». فى الأزمان الماضية كان الأدهم يعيش بمنطق «فقر بلا دين هو الغنى الكامل»، لكن صبغة الثقافة الاستهلاكية التى صبغته منذ أن دخلت مصر عصر الانفتاح والخلجنة وتبنى القيم الغربية أحدثت تحولاً مثيراً فى أنماطه القيمية، فتراجعت كل القيم الراقية أمام قيمة المال، بما فى ذلك قيم الأخلاق وقيم الأسرة وقيم الحياة الآمنة التى ظلت لسنين طويلة تشكل رؤيته للحياة وتحدّد مسيرته فيها.
أصبحت حياة قطاع لا بأس به من الأداهم تتمحور حول فكرة «القسط»، بل يمكن القول إن حياة الكثيرين أصبحت تسير تحت غيوم التقسيط. فبالنسبة لمن اقترضوا واستدانوا أصبح شبح حلول الشهر يقض مضاجعهم، لأن كل شهر جديد يستوجب قسطاً جديداً لا بد أن يُدفع وإلا كان مصير صاحبه «الحبس». عمر الأدهم نفسه أصبح محكوماً بالتقسيط، خصوصاً لدى هذا القطاع الذى نزح للعمل فى دول الخليج، فقد استغرق أفراده فى العيش داخل آلات حاسبة تقوم كل شهر بإضافة رقم معين إلى الرصيد. وعندما كانت معاناة الغربة ومراراتها تململ أحاسيسهم، كان جلهم يكتفى بترديد عبارات «أخلص السنة دى وأرجع.. أنا خلاص تعبت.. ومحتاج أرتاح وأعيش». وما إن يحول الحول حتى يعيدوا الكرة من جديد، ويرددوا عندما يستبد بهم التعب العبارات نفسها، وبمرور الوقت أصبح المغترب لا يستخدم الآلة فى حساب أرصدته فقط، بل فى حساب عمره أيضاً الذى أصبح هو الآخر يخضع لنظام التقسيط.