بقلم: د. محمود خليل
لا يميل «أدهم» إلى الاختيار، لأنه يخشى تحمُّل المسئولية، يكتفى فى الأغلب باستقبال ما تلقى إليه الأقدار، فيرضى عنه أو يسخط. وإذا كان «المصرى» قد أحب عباس الأول واعتبر عصره فترة هدنة والتقاط أنفاس، فقد كان حبه لخليفته فى الحكم -الوالى سعيد بن محمد على- أشد، فقد اتخذ الأخير من القرارات ما غذَّى ودعم الحلم الأدهمى بالعودة إلى التمدد فى الحديقة والانتشاء بعزف الناى وشد الأنفاس من الشبك.
يقول الدكتور «حسام إسماعيل»، صاحب كتاب «وجه مدينة القاهرة»، إن سعيداً بدأ عهده بقرارات تخفف الأعباء المالية عن أفراد الشعب، وكان أول هذه الأعباء الأخذ بحرية التجارة وأخذ الضرائب من الفلاحين نقداً وليس عيناً، مما أتاح لهم حرية بيع محصولاتهم، بل تجاوز عن الضرائب المتأخرة على الفلاحين وأعفاهم منها، وأصلح أيضاً نظام المعاشات لموظفى الدولة، وتخلّى عن آليات السخرة التى اعتمد عليها محمد على فى حشد الأداهم فى مشروعاته الكبرى. كان عهد «سعيد» سعيداً فعمَّ الرخاء مصر بعد القوانين التى استنها الوالى، وساد الاستقرار بسبب عدم انخراط مصر فى حروب، كما أدى نشوب الحرب الأهلية فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى ارتفاع أسعار القطن فى الأسواق العالمية فانتعش الاقتصاد أكثر وأكثر.
انطلق «أدهم» فى الحياة راضياً عن أسلوب «سعيد» فى الإدارة، عاد إلى حياته الأولى الأثيرة فى العمل لسويعات قليلة فى اليوم، ثم التمدد على الأرائك أو الحصير أو أمام البيوت، وشرب البوظة أو تدخين الجوزة، والهرولة إلى مقاهى القاهرة آخر الليل للاستماع إلى المنشدين والرواة والاستمتاع بأنغام الناى والربابة. إنه نمط الحياة الذى تراجع فى عصر محمد على الذى أخذ «الأداهم» بالقاسية. كان الأداهم يطيعون الوالى الكبير -وهم مكرهون- فى أسلوب الحياة الجديد الذى فرضه عليهم، فلما رحل مثلما يرحل كل حى عادوا إلى سيرتهم الأولى. ولا يستطيع أحد أن يحدد بشكل قاطع السبب الذى أدى إلى هذه الأزمة بين «أدهم» والوالى الأب. حياة «أدهم» كانت تستوجب التطوير، تلك حقيقة أقرها الواقع وأدركها الوالى، لكنه فى الوقت نفسه لجأ إلى الأسلوب الأسرع والأكثر إنجازاً فى التغيير، والمتمثل فى إجبار «الأداهم» على الانخراط كتروس فى عجلة البناء والتحديث، لم يبذل محمد على الجهد المطلوب لشرح وإقناع المصريين بمعالم مشروعه، وتشير سطور التاريخ إلى أن الوالى الأب رحل عن الحياة يائساً من أن يستكمل أحد من أبنائه أو أحفاده مشروعه الكبير أو يحفظوا البقية المتبقية منه، ما يطرح سؤالاً حول الجهد الذى بذله محمد على فى إقناع أقرب أفراد أسرته إليه بمشروعه التحديثى المهم.
العذر الوحيد الذى يمكن التماسه للوالى الكبير يتعلق بالتركيبة النفسية والمزاجية لأدهم والتى تدفعه إلى المعاندة والمكابرة وعدم الانصياع لمن يدعوه إلى الخروج من دائرة المألوف فى حياته، أو التخلى عما اعتاد عليه من سلوكيات، لكن يبقى فى النهاية أن اقتناعه وتوعيته وتعليمه هو السبيل الوحيد لتغييره. هكذا تقول التجربة.