بقلم: د. محمود خليل
ماذا يعنى إهدار السياق فى فهم الأحداث؟ إنه ببساطة يعنى أن تقرأ أحداث الحاضر بعين الماضى، أو تقرأ أحداث الماضى بعين الحاضر. هذا الفخ سقط فيه البعض وهم يتابعون أحداث مسلسل «ممالك النار»، فأسقطوا موقفهم السياسى المعاصر من تركيا على «الغزو العثمانى» لمصر (1517) وتناسوا ما تعرضت له مصر على أيدى المماليك، فى حين أسقط آخرون موقفهم المعارض من التحولات التى تشهدها مصر منذ عدة سنوات فتغاضوا عما أحدثه الأتراك بمصر من مجازر وعمليات سلب ونهب ممنهج، وأخذوا يدافعون عن «خلافة بنى عثمان» ويسلقون المماليك وعصرهم بألسنة حداد. فى ظنى أن الطرفين وقعا فى فخ إهدار السياق وهم يقرأون الحدث الذى عالجه المسلسل.
لا بد فى البداية أن نقر بحقيقة أن مصر كان يُنظر إليها منذ الفتح العربى على يد عمرو بن العاص على أنها «طُعمة» وعبارة «طُعمة مصر» تجدها حاضرة فى الكثير من الكتابات التى أرَّخت لهذه الفترة، وكثيراً ما كانت تتردد على لسان «عمرو» فى حواراته مع الخليفة عثمان بن عفان ثم معاوية بن أبى سفيان. منذ هذا التاريخ ومصر مطمع تتحلب على خيراتها شفاه كل من أراد أن يسيطر على هذه المنطقة. وكان ذلك فى وقت لم تتشكل فيه بعد فكرة الدولة الوطنية وأن مصر للمصريين من أهلها، بل إن أهل مصر حينها كانوا ينظرون إلى سيطرة الغير عليهم كأمر عادى وطبيعى ومسلَّم به. يشهد على ذلك ما حدث فى نهايات الدولة الإخشيدية حين أرسل كبار المصريين الرسائل إلى المعز لدين الله الفاطمى يدعونه إلى الزحف بجيشه إلى البلاد وحكمها بعد أن عمَّت الفوضى الأنحاء. ولم يكن المماليك فى مصر أكثر من مقاتلين استعان بهم الخلفاء العباسيون لحماية ملكهم المتهالك، وسيطروا بمرور الوقت على مقاليد الأمور، وكان من الطبيعى أن يطمعوا هم الآخرون فى السيطرة على مصر «الدجاجة التى تبيض ذهباً» وهو ما فعلوه منذ عصر صلاح الدين الأيوبى، ومروراً بعصر المماليك التركمان، ثم مماليك دولة «قلاوون»، ثم ملوك الدولة الجركسية التى كان آخر سلاطينها طومان باى.
تحرك «الترك» نحو مصر مدفوعين بالطمع التاريخى فى خيراتها، ومدركين أن السيطرة عليها جزء لا يتجزأ من معادلة السيطرة على المنطقة. وما إن داسوا ترابها حتى أعملوا آلة الذبح فى أهلها، ونهبوا ما وصلت إليه أيديهم، حتى رخام القلعة خلعوه واصطحبوه معهم، وجمعوا عمالتها المهرة وساقوهم إلى عاصمة دولتهم، وفرضوا على الدولة جزية سنوية تدفع لسلاطينها. «التركى» والمملوكى» كانا غزاة، لكنْ ثمة فارق جوهرى بين عقلية كل منهما. «التركى» كان «نهاباً هداماً»، أما المملوكى فكان «نهاباً بنّاء»، يشهد على ذلك ما تركه المماليك من مبانٍ ومساجد وتكايا وأسبلة وخلافه.
حقائق التاريخ تقول إن التركى والمملوكى شكّلا فيما بعد عام 1517 تحالفاً لحكم مصر. فعصر المماليك لم ينتهِ بعد هذا العام، بل ظلوا المحركين الأساسيين للأمور فى البلاد، وفى الوقت الذى كان يخضع فيه المصريون للمماليك كانوا يدينون بالولاء للسلطان العثمانى. تجد ذلك واضحاً فى رد الزعيم محمد كريم على قائد البحرية الإنجليزية الذى أراد النزول إلى الإسكندرية لمنع احتلالها على يد نابليون وحملته، حين قال له: «هذه بلاد السلطان ولا ينزل فيها أحد إلا بإذنه»، ويشهد على ذلك أيضاً أن مصطفى كامل كان يدافع عن حق مصر فى التحرر من الاحتلال الإنجليزى بالحديث عن أن مصر ولاية عثمانية. فى عام 1811 ذبح محمد على المماليك وضعفت شوكتهم، لكنهم ظلوا باقين عقوداً طويلة داخل المشهد السياسى، وحتى بعد زوالهم ظلت ثقافتهم المبنية على الشللية والتآمر وسحق أولاد البلد وضرب المهاميز ودق الأسافين قائمة حتى يوم الناس هذا.