بقلم: د. محمود خليل
دعنا نتوقف عند المحطة التى سبقت قيام ثورة يوليو 1952، وذلك فى سياق الحديث عن «الأدهمية القطبية»، بعد أن تناولنا الأطوار المختلفة التى مرَّ بها سيد قطب حتى استوى وطاب وأصبح ثمرة جاهزة للسقوط فى حجر جماعة الإخوان. فقد صرفنا التوقف أمام رحلته عن تحليل دفتر أحوال «أدهم الشعبى»، لأن التقلبات والصراعات التى خاضها «قطب» قبل الثورة اتسمت بطابع فكرى نخبوى ملحوظ فى وقت كان الشعب منشغلاً فيه بأمور أخرى. كان الموظفون والفلاحون والعمال والطلاب يعيشون خلال العقدين السابقين للثورة ظروفاً بيّنة السوء. ولنبدأ بالحديث التفصيلى عن أوضاع الموظفين.
منذ الثلاثينات عانى «أداهم الموظفين» من خنقة اقتصادية عنيفة ضغطت على أعصابهم. فقد شهدت هذه الحقبة الأزمة المالية العالمية التى تأثرت بها مصر، فشحَّت الأرزاق وندرت الوظائف وقلَّت العملة فى يد الأداهم بصورة موجعة. تستطيع أن تظفر بصدى هذه الأوضاع على حياة المصريين من مراجعة رواية «القاهرة الجديدة» التى يشرح فيها نجيب محفوظ الحال التى ضربت «الأدهمية المصرية» خلال الثلاثينات، وكيف أصبح كل شىء قابلاً للبيع مقابل الحصول على قوت الحياة: الكرامة والحرية والأخلاق وشرف الأنثى. فكل الرايات القيمية انكسر عودها أمام الجوع. الراية الوحيدة التى ظلت ترفرف فوق الأدهمية كانت راية «طُز» الشعار الشهير الذى ظل يردده محجوب عبدالدايم بطل الرواية طيلة أحداثها. وفى مقابل الجوعى من الأداهم ظهرت أقلية من الأداهم الأثرياء استفادت من الأزمة ثم ساعدتها الحرب العالمية الثانية التى نشبت 1939 أكثر وأكثر، فتزاوج أثرياء الأزمة مع أغنياء الحرب فدقت مطارقهم رؤوس فقراء الأداهم مع مطارق الباشوات والسلطة المصرية وسلطة الاحتلال حتى أفقدتهم توازنهم، وجعلت أى قيمة تتصاغر فى أعينهم فى سبيل الحصول على القوت.
تفاقمت الأمور أكثر وأكثر مع استهداف مصر من جانب قوات المحور التى تقودها ألمانيا، ووجد الأداهم أنفسهم فى قلب الحرب رغم أنوفهم، ورغم صرخاتهم الاحتجاجية التى تحولت إلى رصاصات ضد من يزعم أن مصر متزوجة من إنجلترا زواجاً كاثوليكياً لا تنفصم عراه، كوزير المالية أمين عثمان الذى اغتيل عام 1944. تحركات القوات الإنجليزية لمواجهة قوات المحور الزاحفة من ليبيا إلى مصر أقضّت مضاجع الأداهم الذين يؤثِرون السلم على الحرب، والاستقرار على الاضطراب، والاطمئنان على القلق، فهرعت أسر من بعض الأحياء التى تعرضت لغارات إلى أحياء أخرى أكثر هدوءاً، تماماً مثلما فعلت أسرة «عاكف أفندى» التى هجرت حى السكاكينى إلى حى خان الخليلى، وعندما سأله نجله عن النقل من السكاكينى إلى خان الخليلى رغم أن الحيين فى القاهرة وعُرضة لغارات الألمان، رد عليه «عاكف» قائلاً: «هذا الحى فى حِمى الحسين رضى الله عنه، وهو حى الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين».
وقد كان الألمان بالفعل يخطبون ود المسلمين عبر منشوراتهم، وراهن قطاع من المصريين على الألمان وأنهم سيساعدونهم فى التحرر من الإنجليز، بنفس اليقين الذى راهن به عم «عاكف» وغيره من الأداهم على أن الحى الذى يحميه أهل البيت هو الناجى وحده من قصف الطائرات!.