بقلم: د. محمود خليل
امتاز «الأداهم» من مفكرى مصر وكتّابها خلال القرن العشرين بمقدار -يزيد أو ينقص- من التعالى على المحيط والمحيطين بهم. التعالى على الواقع بسبب سيطرة الجهل أو الفقر أو المرض عليه مسألة إيجابية. ولو أنك راجعت كتاب «الأيام» للدكتور طه حسين فستظفر فى العديد من المواضع بعبارات تنم عن تعالى العميد على الواقع الأدهمى الجهول الذى سيطر على القرية التى عاش فيها طفولته وصباه، لكن تعاليه هذا تحول إلى طاقة إيجابية دفعته إلى تبنى قضية «مجانية التعليم» حتى تمكن من تحقيق حلمه بجعل التعليم كالماء والهواء حقاً لكل مواطن. «العقاد» أيضاً كان متعالياً على الآخرين ويثق بنفسه كل الثقة، لكنه حوّل تعاليه أيضاً إلى طاقة إيجابية من خلال «صالونه» الذى شكل مدرسة تعلم فيها أبرز المثقفين المصريين.
تعالى طه حسين تحول إلى «أستاذية». وتعالى العقاد استحال إلى «تعملق فكرى». أما تعالى سيد قطب فقد تحول إلى «استعلاء»، ذلك المصطلح العجيب الذى قذف به سيد قطب فى القاموس الأدهمى. يرى سيد قطب فى كتاب «معالم فى الطريق» أن الاستعلاء - بمدلوله الإيمانى- حالة عامة ودائمة ينبغى أن يكون عليها شعور المؤمن، وتصوره، وتقديره للأشياء والأحداث، والقيم والأشخاص سواء بسواء. يبرر سيد قطب الاستعلاء بـ«الإيمان». رغم أن الإسلام شأنه شأن كل الأديان يصادر على فكرة تعالى إنسان على إنسان. يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا». ويقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، بل يشير القرآن الكريم إلى أن الفوز فى الآخرة رهين بالتسامى على فكرة الاستعلاء فى الأرض: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا». عقد سيد قطب رباطاً عجيباً بين الإيمان والاستعلاء رغم أنهما لا يجتمعان فى علاقة.
تعالى سيد قطب جوهره تحول إلى «ازدراء وتجهيل» لأداهم المحروسة وأوادم العالم ككل. ولو أنك أحصيت عدد المفردات من طراز: الجهل والجاهل والجهال والجاهلية داخل كتاب «معالم فى الطريق» فستجدها الأكثر استخداماً، وفى الوقت نفسه الأكثر تعبيراً عن تصوره الخيالى للإنسان الذى يلتزم التزاماً مثالياً ويسلم تسليماً كاملاً للسماء تبعاً لمفهوم سيد قطب لرسالتها. الإنسان الذى وصفه القرآن بالضعف: «وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا». وتعجل الأمور: «خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ». والجدل: «وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا». هذه الصفات وغيرها تبرر ظهور الإنسان على مسرح الخطأ، وتفسر قول النبى صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
اجتهد سيد قطب فى تغطية تعاليه على الآخرين ونظرته «التجهيلية» لهم بدثار «الاستعلاء الإيمانى». وبإمكانك أن تظفر فى كتاب «طفل من القرية» بالعديد من الإشارات التى كان يحاول سيد قطب أن يقدم فيها نفسه كطفل قادر على تسفيه أفكار الكبار، كما فعل عندما سألهم عن سر ولعهم بالمجاذيب وأسباب إصرارهم على الدفع بالأطفال إلى الكتاتيب دون المدارس وغير ذلك من مشاهد. ورغم ما كان يبديه «قطب» من تعاطف مع «العمال الأجراء» بسبب مواويلهم الغنائية التى كانت تخلب خياله إلا أنه بدا متعالياً - بتوجيه أسرى- على أترابه من أطفال القرية (حرافيش الأداهم».. ويقول فى ذلك: «فلم يكن مسموحاً له باللعب معهم فى شوارع القرية وطرقاتها مع الأولاد الآخرين حفظاً لملابسه النظيفة من القذارة، وحماية لأخلاقه من التلوث بأخلاق أولاد القرية وألفاظهم البذيئة»!.