بقلم: د. محمود خليل
فى الأول من يناير عام 1976 نشأت المنطقة الحرة ببورسعيد، وبدءاً من هذا اليوم أصبحت «بورسعيد» أشبه بالقِبلة بالنسبة لأداهم المصريين. الجميع كان يهرول إليها -أغنياء الأداهم وفقراءهم- ليعود الأغنياء محمَّلين بأحدث الماركات العالمية فى الملبس والمركب والمأكل والمشرب، بعد سنوات حرمان طويلة قضوها فى عصر عبدالناصر من «المستورد»، ويعود الفقراء بما تيسر حتى ولو كان «كام باكو لبان على شرابين وعلبة كومبوت». وقد حدثتك فى مقال سابق عن النزعة الاستهلاكية التى انفجرت داخل الوجدان الأدهمى خلال هذه الفترة، ومن لم يكن يملك شيئاً يستهلك به كان يستسلم لإحساس مرير بالتطلع.
تجذَّرت ثنائية «الاستهلاك - التطلع» فى النفس الأدهمية مع تشكل طبقة من الأغنياء القدامى (ممن تم رفع الحراسة عنهم من أثرياء العهد الملكى) والأغنياء الجدد الذى خرجوا من رحم الثورة واعتمدوا على الفساد فى مراكمة الثروات. ودعّم الثنائية زيادة عدد الأداهم الساقطين فى مستنقع الفقر، وتولد لدى هؤلاء نزعة تطلُّع ورغبة جامحة فى الحصول على المال حتى ولو كان بطرق غير مشروعة لإشباع تطلعاتهم التى كانت تغذيها الإعلانات التليفزيونية بأعلى درجات الدأب. طرأ على الشخصية الأدهمية طارئ جديد ذابت معه الحدود الفاصلة بين المال المؤسس على الاجتهاد والمال المبنى على السرقة، وتغذى هذا الطارئ على إحساس ترسخ داخل «الأدهم» بمرور الوقت بأنه «ما دام الكل يسرق لا بد أن أسرق»، وبسبب توسع دائرة الفساد لم تعد العين الأدهمية تفرق بين الثراء المشروع والآخر غير المشروع، واعتبرت أن «كل غنى لص». وأمام هذا التحول لم ينظر «السادات» إلى الشرخ الذى أحدثه الفساد الناتج عن الانفتاح فى النفس الأدهمية، ولجأ إلى الحل الأسهل فاتهم «عبدالناصر» بأنه ترك له تركة ثقيلة من الحقد!.
قدم نجيب محفوظ فى قصة «أهل القمة» معالجة عميقة للتحولات الاجتماعية التى أصابت الحياة الأدهمية مع نشأة المدينة الحرة فى بورسعيد، من خلال حكاية اللص «زعتر النورى» الذى تحول إلى رجل أعمال. كان «زعتر» يرى أن البلد كله لصوص وأن الحكومة هى اللص الأكبر، وأن الأمن لا يسلط سهامه إلا نحو اللصوص الغلابة، فى حين يحمى اللص الأكبر!. آمن «زعتر» بأن الشرف فى زمن الانفتاح خيبة، واستغل مناخ الانفتاح والمنطقة الحرة وبدأ يعمل فى تهريب البضائع حتى أصبح رجل أعمال مرموقاً، وأقنع الضابط الذى كان يطارده بالأمس بقبوله كشريك حياة لابنة أخته. هذه الحكاية تكررت بنسخ مختلفة وأبطال متباينين خلال فترة السبعينات فتحول موظفون بسطاء فى الجمارك أو عمال فى ميناء إلى أصحاب أعمال جلبت عليهم الملايين.
ونتيجة هذه التحولات أصبحت السلع الاستفزازية جزءاً من حياة مجموعة من «الأداهم» الذين أثروا باستغلال الظرف بعد زمان عاشوه فى ظل قاعدة «القناعة كنز لا يفنى»، وبدأوا ينظرون نظرة استعلاء إلى القاعدة العريضة من الأداهم التى يقتلها الفقر والتطلع ويعيبون عليهم حالهم، قناعة منهم بأن كسل وقلة وعى هؤلاء بمعادلة «الخطف والهبر» هى التى أوردتهم هذا المورد، ورددوا على مسامعهم إحدى المقولات التى انتشرت فى السبعينات: «اللى مش هيغتنى دلوقتى.. عمره ما هيبقى غنى».