بقلم : د. محمود خليل
الفلوس لا تصنع تعليماً جيداً.. والمجانية لا تقتل التعليم.. هاتان الفكرتان تستحقان المناقشة فى ظل ما هو مثار حالياً حول تطوير التعليم فى مصر. فى سياق الفكرة الأولى تقول التجربة المصرية إن الفلوس لا تصنع تعليماً. وليس ثم من دليل على ذلك سوى النظر إلى مستوى الخدمة التعليمية داخل المدارس الخاصة. مصروفات بعض هذه المدارس تحلِّق فى عنان السماء، وأقلها يتطلب دفع عدة آلاف من الجنيهات. والأمر نفسه ينطبق على الجامعات الخاصة. فى كل الأحوال نجد أن أغلب الأسر التى تُلحق أبناءها بالتعليم الخاص تشتكى من أن العائد أقل بكثير من المدفوع. وليس معنى ذلك أن هذا النوع من التعليم يخلو من مميزات، فهو أكثر اهتماماً بتعليم اللغات الأجنبية، كما أنه يهيئ ظروفاً إنسانية أفضل لتلقى التعليم.
رغم الأموال الطائلة التى تنفقها الأسر المصرية فى التعليم الخاص فإن أرقاماً متنوعة تؤكد محدودية عوائده. على سبيل المثال تقول نتائج الثانوية العامة، خلال السنوات الأخيرة، إن الأوائل عادة ما يخرجون من المدارس الحكومية، ولست أذكر أن المدارس الخاصة قدمت عبر سنين عملها الطويلة فى مصر الأول أو الأولى على الثانوية العامة بأى من شُعبها. والمسألة لا ترتبط بحال بتميز الخدمة التعليمية التى تقدمها المدرسة الحكومية، بل مردُّ الأمر إلى عوامل أخرى عديدة، فالتفوق يشتمل، فى جانب منه، على إرادة فردية وطموح شخصى وخصائص تتميز بها نظم التقويم ومستوى ميلها إلى اختبار قدرة الطالب على حفظ واستدعاء المعلومات، أو مهارته فى فهم وحل المعضلات. ولو أنك حللت السير الذاتية لأغلب الوزراء والمسئولين من حمَلة الدكتوراه فستجد أن أغلبهم من خريجى المدارس والجامعات الحكومية. ومن المعلوم أن الجامعات الحكومية المجانية هى الأكثر ظهوراً فى التصنيفات العالمية لأفضل الجامعات، خلافاً للحال بالنسبة للجامعات الأجنبية والخاصة فى مصر.
المجانية إذن لا تقتل التعليم، لكن ذلك لا يعنى بحال أن نغفل المشكلات التى يعانى منها التعليم المجانى فى مصر. وهى مشكلات لن تُحل بتسعير الخدمة التعليمية المجانية، أو بترك الأوضاع الحالية على ما هى عليه. فليس من الطبيعى أو المنطقى أن يُمنح الطالب الراسب فى أى سنة دراسية فرصة جديدة للمجانية، فالمتعلم غير القادر على الدفع لا بد أن يجتهد فى اغتنام الفرصة التى أتيحت له، وتكرار الرسوب المجانى يعنى المزيد من الخسائر الفردية والاجتماعية. وفى المقابل ليس من الطبيعى أو المنطقى أن تحرم الدولة أو المجتمع فقيراً مجتهداً من فرصة التعليم لمجرد أنه لا يملك المال. الدولة التى تمول تعليم غير القادرين من أبنائها لا تُلقى «فلوسها» على الأرض، بل تستثمرها. طابور الأطباء والمهندسين والمعلمين وأساتذة الجامعات والفنيين وغيرهم ممن تعلموا بالمجان وسافروا للعمل بالخارج هم المصدر الأهم للعملة الأجنبية التى تُعد رافداً مهماً من روافد الدخل القومى.
المجانية ليست ظلماً اجتماعياً.. والدفع لا يحقق العدالة فى كل الأحوال.. سؤال الفلوس يتعلق بالمكان الذى يضع فيه الفرد أو المجتمع أمواله، فحين توضع الفلوس فى مكانها تربو وتزيد وتحقق العوائد المرجوة، وإذا وُضعت فى غير مكانها ضاعت وأضاعت.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع