بقلم: د. محمود خليل
الأفكار المكتبية هى نوع من الأفكار يتم إفرازها على المكاتب بعيداً عن معطيات الواقع. وفى كثير من الأحوال تبدو مثل هذه الأفكار بعيدة كل البعد عن إمكانيات الأفراد، ونادراً ما يصادفها التوفيق. تستطيع أن تستكشف معالم الفكرة المكتبية من قراءة الكتاب الدورى الذى نشره البنك المركزى على موقعه ويحدد فيه شروط مبادرة التمويل العقارى لمتوسطى الدخل، التى سبق وأعلن عنها البنك. وهى مبادرة تتوجه إلى متوسطى الدخل لتبيع لهم شققاً لا تزيد مساحتها على 150 متراً ويبلغ سعرها 2.25 مليون جنيه.
كثيرون سبق وتوقفوا أمام السعر المملين للشقة التى يفترض أن تتوجه إلى محدودى الدخل وسخروا منه، لأن السعر يعتبر سعراً سماوياً بالنسبة لغالبية أفراد الطبقة الوسطى فى مصر. وهو أيضاً مبالغ فيه عند مقارنته بأسعار شقق مثيلة لما تطرحه المبادرة (150 متراً) يمكن الحصول عليها فى مواقع متعددة عبر شركات عقارية تعتمد أنظمة مختلفة للتقسيط. بعيداً عن هذه المسألة يشتمل الكتاب الصادر عن البنك المركزى بشأن تحديد شروط الاستفادة من المبادرة على شرط يستلفت الانتباه، ويقضى بأن يكون الحد الأقصى للدخل الشهرى للمستفيد فى حالة كان فرداً 40 ألف جنيه، وللأسرة 50 ألف جنيه. والسؤال ما نسبة أفراد متوسطى الدخل -الذين تتوجه إليهم المبادرة- ويبلغ الحد الأقصى لدخلهم الشهرى رقم الـ40 ألفاً؟.
تحدد بعض الدراسات الحديثة (بعد تعويم الجنيه) دخل المواطن «متوسط الدخل» فى مصر بمبلغ يتراوح ما بين 8- 10 آلاف جنيه، ويرى بعض الخبراء أن من يزيد دخله على 20 ألف جنيه لا يدخل ضمن هذه الشريحة، بل ينضم إلى الشريحة الأعلى من الطبقة المتوسطة. الواقع يقول إن من يحصل على 8 أو 10 آلاف جنيه من أفراد هذه الطبقة لا يملك ترف الدخول فى نظام تقسيط للحصول على شقة ثمنها 2.25 مليون جنيه، فجُل همه ينصرف إلى إدارة حياته الشهرية بهذا الرقم، ولكى يفعل ذلك لا بد أن يتمتع بقدرة أكروباتية عالية المستوى حتى يتمكن من إشباع احتياجاته وأفراد أسرته على مستوى المطعم والمشرب والكساء والدواء والتعليم وخلافه، ناهيك عن فواتير الخدمات. وبالتالى فالطرح الذى يقدمه البنك المركزى تعوزه الواقعية، لأنه يغرد بعيداً عن الأرقام الحقيقية المعلنة حول دخل متوسطى الحال فى مصر.
قد يردد البعض أن هناك من يحصل على 40 ألف جنيه وأكثر من أفراد الطبقة الوسطى. فهناك موظفون بالدولة يحصلون على دخل يبلغ سقفه فى بعض الأحوال الحد الأقصى الذى حدده القانون (42 ألف جنيه). والواقع يقول إن أغلب هؤلاء يسكنون فى شقق وأحياناً فيلات لا ترقى إليها شقق البنك المركزى، وبالتالى فهى لا تشكل مركز استقطاب أو نقطة جذب بالنسبة لهم، بل على العكس تماماً يصح أن نقول إنهم ينظرون إليها على أنها شقق تعبانة تليق بمطحونى الطبقة المتوسطة، وبالتالى فالشريحة التى يتحقق لديها شرط الدخل -كما ينص عليه كتاب البنك المركزى- لن تستجيب بالقدر الكافى للعرض أو المبادرة مما يفقدها صفة الواقعية. لأنها ببساطة غردت بعيداً عن مواصفات السلعة المستهلكة بالنسبة لها.
الأفكار التى تمت صناعتها داخل المكاتب قد تحقق إنجازات أو انتصارات على الورق، لكن عندما تنزل إلى أرض الواقع فمصيرها أن تتحول إلى «نكتة»!.