بقلم: د. محمود خليل
هذه الحالة لا تحدث إلا عندما تضغط الدنيا بأعبائها على صدر بنى آدم فتربكه، أو يصبح ضعيفاً أمام رغباته وطموحاته وانحيازاته فى الحياة فيضل وتزل قدمه بعد ثبوتها. أتحدث عن اتجاه «البعض» إلى النيل من أشخاص صعدت أرواحهم إلى بارئها، لمجرد أنهم كانوا يختلفون معهم فى وجهات النظر أثناء حياتهم. و«البعض» الذى أتحدث عنه هذا قد يقع فى فئة «المؤيدين» أو «المعارضين». لقد وصلنا إلى حالة لا بد أن نتوقف عندها فليس يعقل أن نجد بيننا من يشمت فى وفاة فنانة راحلة أو كاتب معروف (رحم الله الجميع)، أو يغل يده عن مساعدة إنسان مريض، لمجرد أنه يختلف معه فى الرأى. أما الجهل والجنون الحقيقى فتظهر أعراضه عندما تجد الشامت يتحدث بسخافة عن أن الراحل الآن بين يدى الله ويحاسب على ما جنت يداه، مربط الجنون هنا يتمثل فى «التأله» على الله تعالى، وهو سلوك لا يخرج إلا عن جاهل أو معتوه.
التأله على الخالق العظيم جهل وجنون. والله تعالى أمرنا فى القرآن الكريم بإتيان «الجميل» وترك «القبيح» عند الاختلاف مع الآخر، مهما فعل بك. فإذا صبرت فليكن صبرك «جميلاً»، وإذا هجرت فليأتِ هجرُك «جميلاً» وإذا صفحت فاصفح صفحاً «جميلاً».
كلنا يذكر قصة نبى الله يعقوب مع بنيه، عندما كادوا لولده الأثير «يوسف»، وطرحوه أرضاً وتسببوا فى تغريبته الطويلة عن أبيه وأمه. كان إخوة يوسف وهم يخبرون أباهم بمصرع ولده الأثير على يد ذئب يعلمون أن أباهم لا يصدقهم: «وما أنتَ بمؤمنٍ لنا ولو كُنا صادقين»، ويعقوب كان واثقاً فى أنهم نالوا من ولده، وليس أمرّ على نفس الأب من الإساءة إلى أحد أبنائه المتفردين بمحبته، ورغم ذلك واجه النبى المحنة بالصبر «الجميل». وردَّ عليهم قائلاً: «بل سوَّلَت لكم أنفسُكم أمراً فصبرٌ جميلٌ واللهُ المستعانُ على ما تصفون». والصبر الجميل هو الصبر البرىء من «الشكوى»، يكتفى صاحبه بالنظر وانتظار رحمة ربه. ويبقى أننا بشر، وأحياناً ما نضجر ونضج ونجد أنفسنا بحاجة إلى الشكوى. فى تلك اللحظة على العاقل أن يشكو إلى ربه كما فعل يعقوب «قال إنما أشكو بَثِّى وحُزنى إلى الله وأعلمُ من الله ما لا تعلمون».
الإنسان قد يشعر فى لحظة بالتعب ممن حوله، ويعانى من ضغوطهم عليه، ويحس بالرغبة فى الانفصال عنهم وهجرهم، فى هذه الحالة لا بد له أن يكون «جميلاً» فى هجره للآخر. هكذا وجَّه الخالق نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: «واهْجُرْهُم هَجْراً جميلاً»، والهجر الجميل هو الهجر الذى يبرأ من أذى الآخر بأى صورة من الصور أو معنى من المعانى. فالإسلام كما يحرص على ترسيخ مفهوم السلام مع النفس، يؤكد فكرة السلام مع الآخر.
فى ختام فيلم «الكرنك» يردد البطل جملة لافتة يقول فيها «كلنا مجرمون وكلنا ضحايا»، لذلك على الإنسان أن يصفح عن الآخر، حتى لو أساء إليه، وقد أكد القرآن الكريم «الجمال» فى الصفح: «فاصفحِ الصفحَ الجميل»، أى الصفح الخالى من اللوم أو العتاب. ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بِحَجَر.