بقلم: د. محمود خليل
عبر السياسة الماكرة التى تعامل بها «مبارك» مع المتطرفين، بالاعتماد على أسلوب تصديرهم إلى الخارج (الجهاد فى أفغانستان)، تراجعت العمليات الإرهابية طيلة فترة الثمانينات، وهدأت الأمور بعد واقعة اغتيال الرئيس «السادات» وما أعقبها، لكن عجلة المعاناة المعيشية كانت تدور فتطحن برحاها بسطاء الأداهم. فعواصف الغلاء لا تتوقف، وديون الدولة تتراكم، والنقد الأجنبى تجارة رابحة فى السوق السوداء، والمرافق والخدمات متردية، والدولة لا تجد التمويل اللازم لتصحيح أوضاعها وترميم أحوالها. كان «مبارك» ينظر إلى المشهد وينتظر معجزة سماوية تنتشل الاقتصاد من وهدته. لقد بدأت بعض المكاسب تتدفق من الخليج، وأحياناً من الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الدعم المصرى لعملية «الجهاد ضد الإلحاد» لتحرير أفغانستان من الاحتلال السوفيتى، لكنها لا تكفى. وبان أثر الأزمات المعيشية التى ضربت الأدهمية عندما اندلعت أحداث الأمن المركزى.
فى أواخر فبراير عام 1986 سرت شائعة بين جنود الأمن المركزى تقول إن مدة الخدمة سوف تزيد من 3 سنوات إلى 5 سنوات. سرت الشائعة كالنار فى الهشيم وتنقلت من هنا إلى هناك، فتدفق الآلاف من الجنود إلى الشوارع وشرعوا فى التعبير عن غضبهم. كانت الأحداث داخل الجيزة والقاهرة هى الأكثر سخونة، وخصوصاً داخل شارع الهرم. قرر «مبارك» يومها فرض حظر التجوال، ونزلت القوات المسلحة للسيطرة على الأوضاع الأمنية بالبلاد. وبعد أسبوع دامٍ هدأت الأمور وتم اتخاذ عدة قرارات لتحسين أحوال الجنود، ونقل معسكراتهم بعيداً عن الكتل السكنية. هز الحدث «الأدهمية» من قبليها إلى بحريها. وكان «مبارك» الأشد اهتزازاً بين أهلها، فقد شعر أن كرسى السلطة يهتز أسفل منه. وليس أصعب على حاكم من حكام الأدهمية من أن تصل الأمور إلى هذا الحد من الانفلات الذى يضطره إلى اتخاذ ما اتخذه «مبارك» من قرارات.
عقب الأحداث تمت إقالة اللواء أحمد رشدى، وزير الداخلية، وكان من أحب الشخصيات التى تولت هذا المنصب إلى «الأداهم» وقد بنوا حول شخصيته العديد من الأساطير، من بينها أنه كان يتنكر فى شخصية مواطن عادى ويدخل الأقسام ويتفقد أحوال الضباط والأمناء ويعاقب مَن يسىء معاملة المواطنين، بالإضافة إلى قصص أخرى تتعلق بمواجهة تجار المخدرات وخلافه. ولأن «الأداهم» يميلون إلى التفسيرات السهلة البسيطة للأحداث، فقد اعتبروا أن تمرُّد الأمن المركزى خطوة مدبرة استهدفت الإطاحة بأحمد رشدى وزير الداخلية، صاحب الشعبية. وهو تفسير مخل بصورة واضحة إذا أخذنا فى الاعتبار أن «مبارك» كان بإمكانه الإطاحة بأى وزير وقتما يقرر. كما أن تمرد الأمن المركزى لم يكن مسألة ذات بُعد أمنى كما تصور «مبارك»، بل كانت له أبعاد اجتماعية واقتصادية أعمق، خصوصاً إذا أخذنا فى الاعتبار ما يعانيه أهالى القرى والنجوع والمناطق الشعبية التى ينتمى إليها جنوده. وقد أكد محمد حسنين هيكل هذا التفسير فى كتابه «من المنصة إلى الميدان»، وأشار إلى أن «مبارك» أعرب عن غضبه من هذا الطرح. فى كل الأحوال مثَّل تمرد الأمن المركزى حدثاً فارقاً فى تاريخ الأدهمية التى كانت تشهد هذا النوع من التمرد لأول مرة منذ عصر المماليك.