بقلم: د. محمود خليل
لفّت الروح الأدهمية الرئيس أنور السادات من نواحٍ عديدة، كان حنينه إلى الراحة والاستقرار عميقاً، وكان ولعه بالحدائق والأشجار كبيراً. ولست أحدثك هنا عن استنتاج، بل عن واقع شخصية السادات كما وصفها بلسانه لوزير خارجيته محمد إبراهيم كامل وكما سجلها الأخير فى كتابه «السلام الضائع»: يذكر «كامل» أن السادات قال له: «إن عبدالناصر لم يكن يستطيع العيش دون توتر ولم يكن يهتم بمباهج الحياة ولا يقدر ما وهبنا الله من نعم بينما السادات يكره العيش فى توتر ولا يستطيع التفكير إلا فى جو هادئ ومن هنا كان حبه للريف وابتعاده عن القاهرة وإقامته فى القناطر الخيرية أو غيرها من المناطق الهادئة ذات الطبيعة الجميلة، وأنه يقدِّر الجمال فى كل صوره، ويشكر الله على نعمه».
إنه حديث يعيد إلى الذاكرة أحلام «أدهم الأول» الذى حدثنا عنه نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا» وعمق شغفه بالحديقة والناى والعيش الهادئ فى ظلال البيت الكبير، وكيف أن «حلم العودة» إلى الحياة الناعمة ظل يطارده بعد أن طرده «الجبلاوى». ولع «السادات» بالحياة المخملية يعد مفتاحاً من المفاتيح الأساسية التى يصح أن نقرأ بها شخصيته ونفهم بها الكثير من قراراته، بدءاً من وقف حرب 1973 فى 24 أكتوبر والدعوة إلى مؤتمر جنيف للسلام، ثم إصدار قانون الانفتاح وفتح باب الأدهمية أمام الاستثمار الأجنبى، ثم التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية، ثم مبادرة السلام، وحتى اختياره لأزيائه من أفخم البيوتات العالمية، وفرحه باختياره ضمن أشيك رؤساء العالم. كل هذه الأمور تجد تفسيرها فى الولع بالحياة الهادئة المخملية.
وربما كان السادات صادقاً وهو يمنّى بسطاء الشعب بحياة أدهمية هادئة تناسبهم، مدارها فيلا صغيرة وسيارة. اعتقد الرئيس الراحل أن هذا ممكن إذا تحررت مصر من مؤنة الحرب وتبعاتها وتوابعها وتفرغت للبناء، لكن المشكلة أن «السادات» كان متعجلاً مع طرف إسرائيلى يعتمد على الصبر وسياسة النفَس الطويل والمراوغة فى التفاوض. وعندما يلتقى طرف متعجل مع طرف طويل النفس على مائدة مفاوضات فالأرجح أن يأتى التنازل من جانب الطرف الأول. لفت بعض أعضاء وفد التفاوض المصرى نظر السادات إلى هذه المسألة، كما يسجل إبراهيم كامل فى مذكراته، لكنه كان يصر على نجاح مفاوضات السلام بأى ثمن، وكان يرى أنه من غير المقبول بعد الخطوة التى خطاها إلى إسرائيل أن ينتهى الأمر إلى لا شىء، وأن يحرم نفسه من لقطة الجماهير التى تصطف على الجانبين لتحية بطل الحرب والسلام وهو يمتطى ظهر سيارة مكشوفة، ليتفرغ بعد ذلك لمعركة البناء وتحقيق الحلم الأدهمى الخالد بالحديقة والناى.
أغلبية الأداهم كانت تعلم أنها تشترى وهماً. وأنّى للأدهم أن يقتنع وهو غارق فى ظلام انقطاع الكهرباء، ومياه الصرف الصحى التى تطفح بها الحوارى والشوارع، وأقدامه مرهقة من طول الوقوف فى طوابير الجمعية، ونفَسه مقطوع من الحشرة فى الأوتوبيسات بما يحدثه عنه «السادات»، ربما حلموا معه بالحياة الظليلة بين الحديقة والناى، لكن الواقع كان يحطم أحلامهم. فئة أدهمية محدودة هى التى استفادت من سياسات السادات وتوجهاته وحققت ثروات ضخمة مكنتها من صياغة حياتها بصورة تتناغم مع أحلامها الأدهمية الشخصية، لكنها حققت حلمها فى الحياة المخملية عن طريق قتل أحلام الجمهرة الغالبة من الأداهم بالحياة ولو بالكاد.