بقلم: د. محمود خليل
توقف الملك فاروق فى مذكراته أمام الكثير من الشائعات التى أطلقها نظام الحكم الجديد حوله، وتتحدث عن الحقائب المتخمة وصناديق السبائك الذهبية وحفلات الشمبانيا والكافيار فوق ظهر يخت المحروسة التى كانت تضم الملك المخلوع وحاشيته، واستغراق الصحف فى وصفه بالسكير والمقامر، وغير ذلك من حكايات مؤكد أنها -بغض النظر عن صدق بعضها وكذب بعضها الآخر- كانت تشعل الخيال الأدهمى وتغذى عقله بمادة جيدة لأحاديث النميمة. الذاكرة الشعبية للأجيال التى عاشت ما بعد 1952 تختزن الكثير من الحكايات التى تقدم فاروق كملك وقع من كتاب ألف ليلة وليلة، توقظه الجوارى الحسان من النوم، ويقضى نهاره فى التخطيط للسهرات مع صديقه «بوللى»، وهى تلك السهرات العامرة بالأنخاب والكؤوس وموائد الطعام والقمار وغير ذلك من حواديت. ربما كان لبعضها أصل، ولكن ليس بهذا القدر من المبالغة التى ارتفعت بها إلى مصاف الهلاوس اللسانية، ولا خلاف على أن الخصومة السياسية لعبت دوراً مهماً فى نسج الكثير من تفاصيل الحكايات التى تلقَّفها الخيال الأدهمى فأضاف إليها العديد من التفاصيل التى تعكس مزاجه الخاص.
الملك فاروق نفسه كان كثيراً ما يداعب الخيال الأدهمى بهذه الهلاوس. فالأجيال التى عاصرته وكانت مؤيدة له تناقلت بعد 1952 قصصاً شعبوية متنوعة -نشرت بعضها صحف العصر الملكى- تغذى الصورة الأسطورية للملك. من بينها على سبيل المثال حكاية الجمل الذى فر من الذبح بمنطقة «المذبح» بالقرب من حى السيدة زينب وجرى فى الشوارع حتى وصل قصر عابدين، وهناك أمسكه أحد حراس القصر، ولما علم الملك بالحكاية قرر شراء الجمل من الجزار -صاحبه- وأعتقه من الذبح. كان البسطاء حينذاك يرددون أن «الجمل استنجد بالملك فأغاثه»!. قصة أخرى يرويها الموظفون الذين جايلوا فاروق، حين تظاهر بعضهم أمام قصر عابدين مطالبين بأن تكون إجازة الجمعة مدفوعة، وكانت فيما قبل تُخصم أجرتها من المرتب، وعندما علم الملك بالأمر قال لمسئولى الحكومة: «أعطوهم مرتب جمعة وسبت»!.
ويبدو أن اللعب على الخيال الشعبى وتغذيته بالحواديت التى تحط من شأن الملك أو تُعلى من قدره شكَّلا جانباً من الصراع الذى نشب فى ذلك الوقت. وفى كل الأحوال كانت أطراف الصراع تخاطب المزاج الأدهمى المولع بالحكايات والأساطير والحواديت الخارقة للعادة. كيف لا والأداهم من الآباء والأجداد كانوا مولعين بالمواويل والحكايات التى يتلوها الشاعر أو المنشد على المقاهى وفى التجمعات العامة؟!. بدا الأمر وكأن فاروق يجنى زرعة آبائه وأجداده الذين لم يبذلوا الجهد الكافى فى تحرير العقل الأدهمى من الخرافات والأباطيل والأراجيف، وهو نفس المطب الذى وقع فيه مَن أتوا بعده ليجنوا مثلما جنى. وكأن الكل أجمع على أن استمرار عقل أدهم على ما هو عليه من ولع بالحكاوى وغرام بالأساطير وتساهل فى قبول وترديد الشائعات هو الأنفع والأفيد بالنسبة لهم، وعندما يجنون نتاج ما زرعوا إذا بهم يعجبون!.