بقلم: د. محمود خليل
لم يرهق «أدهم المصرى» مع خلفائه فى الحكم (عباس الأول وسعيد) كما أرهق مع الوالى الأب محمد على باشا. فالأخير تبنى مشروعاً تحديثياً وجه من خلاله «بوصلة أدهم» إلى حيث لا يفضل أو يريد. بدا الحفيد عباس والابن سعيد خلافاً للوالى الوالد متحفظين على جوانب عديدة من مشروعه، بان ذلك فى مسلكهما، فكانا أميل إلى اختيار المسلك النقيض لمسلك محمد على فى أسلوب إدارة الداخل المصرى، وكذا علاقات الخارج، سواء العلاقة بالدول الأوروبية أو العلاقة بالخليفة ساكن إسطنبول.
راق «أدهم المصرى» حكم عباس حلمى الأول، كان الوالى الجديد حفيد الباشا الكبير، وهو الوحيد من بين أبنائه وأحفاده الذى لم يتلقَّ تعليماً حديثاً أو يسافر إلى الخارج أو يتعلم لغة أوروبية، وبالتالى كان شبيهاً بالكثير من أداهم عصره. صرف «عباس» نظره عن المشروعات الكبرى التى أنشأها جده -كما يذهب الدكتور محمد حسام الدسن إسماعيل فى كتابه «وجه مدينة القاهرة»- وأغلق المدارس والمصانع وتخلص من معظم الأجانب الذين استعان بهم الوالى الكبير فى حكومته. سيرة «عباس حلمى الأول» تشهد على أنه كان مثل كل الأداهم يحلم بالحديقة والناى فبالغ فى بناء القصور فى منطقة العباسية (نسبة إلى الجزء الأول من اسمه) ومنطقة الحلمية (نسبة إلى الجزء الثانى من اسمه) وردم بِركة الفيل وأنشأ فيها حياً وصفه الفنان الراحل فؤاد شفيق ذات يوم بأنه كان يشبه حى «جاردن سيتى». إنها لعبة الحديقة والناى التى أولع بها «أدهم» وكانت تعده «أميمة» فى رواية «أولاد حارتنا» ببنائها على الأرض واتخاذها بديلاً عن حديقة البيت الكبير الذى طردهما «الجبلاوى» منه.
تعلم «أدهم المصرى» من عباس الأول الكثير من الحيل التى تناغمت مع نفسه المولعة بالتمدد، فقد جعل الأرض وعاء ادخار بدلاً من المال، ويذهب المؤرخ «محمد حسام» إلى أن الوالى كان يحرض الأمراء من آل البيت العلوى على بناء قصور لهم فى مدينة العباسية، فأحيا فى نفس «أدهم» فكرة «البيت الكبير» الذى يضم كل أفراد الأسرة تحت مظلة الأب، إنه الحلم الذى يداعب كل نفس مصرية بتأسيس بيت يجمع فيه الأب أولاده، وتظهر المشكلة عندما يرحل الأب ليحاول أحد الأبناء الاستئثار بالبيت ليورثه لأبنائه هو من دون الآخرين حتى ولو تم ذلك بالتآمر، تماماً مثلما حاول «عباس الأول» وفشل حين خطط لنقل ولاية العهد إلى ابنه «إلهامى»، رغم نص لائحة التوريث على أن يكون الحكم فى أكبر أبناء أو أحفاد محمد على. إنه الوتر الأدهمى الشهير الذى لمسه المبدع أسامة أنور عكاشة فى مسلسل «الشهد والدموع»، حين استولى الأب بالظلم على أملاك الخواجة، ليعيد ابنه الأكبر الكرة ويستولى على حق أخيه الأصغر فى الميراث ويحرمه وأولاده منه.
بعد وفاته عام 1854 ظلت سيرة «عباس حلمى الأول» سارية فى أسرة الوالى الكبير وكذا فى النفس الأدهمية. تكرر ظهور اسمه فى شخص «عباس حلمى الثانى» الذى كان كارهاً للأجانب وميالاً إلى الدولة العثمانية. وقد انحاز مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 إلى إسطنبول، ورفض فرض الحماية الإنجليزية على مصر، وقد كان من قبل يوظف الزعيم مصطفى كامل فى الدفاع عن تبعية مصر لتركيا، ونتيجة لذلك فقد عزله الإنجليز من خديوية مصر وعيَّنوا مكانه السلطان حسين كامل. أحب «أدهم المصرى» عباس حلمى الثانى حباً كبيراً وكان يهتف باسمه خلال ثورة 1919 قائلاً: «الله حى.. عباس جاى» وأظن أن هذا الهتاف ما زالت تحفظه أجيال من المصريين حتى الآن.