بقلم: د. محمود خليل
صفحات التواصل الاجتماعى تحولت إلى منتديات للعزاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله. المسألة بدت محدودة فى أولها، فكنت تجد تدوينة أو اثنتين أو ثلاثاً تنعى أحد الأحباء، وبمرور الوقت تحولت إلى سيل من التدوينات، تنام على آخرها، وتستيقظ على جديدها. كل الأجيال التى تعيش فوق تراب مصر لم يسبق لها أن عاشت حدثاً مثيلاً بكورونا. واجهنا أنفلونزا الطيور ثم أنفلونزا الخنازير، ومرت دون أن يشعر بهما الكثيرون، بسبب قلة عدد الضحايا، وعدم مكوثهما لوقت طويل، وعدم اتخاذ إجراءات احترازية فى مواجهتهما يمكن أن يشعر بها الناس. ما نعيشه الآن تستطيع أن تجد ما يشابهه فى كتب التاريخ، عندما كان الطاعون يضرب المصريين بعنف، فكان الرجل يموت، فيرثه ابنه ساعة من نهار، ثم يموت الابن فيجدّون فى البحث عن ورثته، وعندما لا يجدون وريثاً للمال يدفعون به إلى بيت المال. يومها أبدع المصريون مثل: «يا وارث مين يورثك». أحداث شبيهة شهدتها قرى مصرية اجتاحها وباء الكوليرا، تستطيع أن تجد مثالاً عليها فيما حكاه الدكتور طه حسين فى كتابه «الأيام»، حين اجتاح الوباء «عزبة الكيلو» التى كان يعيش فيها.
كثيرون ممن يدوّنون أو يطالعون مدونات النعى يربطون بين لقاء الله وبين الإصابة بالفيروس اللعين. على الرغم من ثبوت أن بعضاً ممن قابلوا وجه الرحمن الرحيم ماتوا لأسباب أخرى، لكن حالة الهلع والذعر التى أنشبت مخالبها فى نفوس الجميع، جعلت الكل يتوهم أن كورونا هو السبب الوحيد لمغادرة الحياة. تعددت الأسباب والموت واحد. الناس معذورة، فكلنا لم يعش مثل هذه المأساة من قبل، وعندما كنا نقرأ عن الأحداث الشبيهة فى كتب التاريخ، كنا ننزعج لمجرد تخيل ما وقع لأجدادنا، فما بالك وقد بارحنا الخيال إلى أرض الواقع. ها هى صور الماضى تظهر بنسخ جديدة فى الواقع المعيش، ليفعل بنا كورونا ما فعله الطاعون والكوليرا فى الأيام الغابرة، فيضرب الصغير والكبير، والغنى والفقير، والأمير والخفير. الكل أمام الموت سواء، وهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. هكذا تسير الأمور، ينجو من الضربة من أراد الله له النجاة، ويتلقاها من شاء الله تعالى له أن يبتلى بها، وكلّه بإذنه.
كل من تدبر آيات القرآن الكريم يجد إشارات عدة إلى أن ابتلاءات الله تعالى للبشر تمثل آيات كونية، وأن العاقل من يتأمل فيها ويتعظ بها، ويعلم أن لله تعالى الأمر من قبل ومن بعد. وقد أراد الله تعالى لهذا الجيل من البشر أن يرى واحدة من آياته رأى العين وأن يعيشها كاملة. المهم هل سيخرج الناجون منها وقد تعلموا الدرس، أم سيمرون عليها معرضين؟. زمان عاين عرب مكة واحدة من آيات الله الكبرى فى واقعة الفيل. وثمة إشارات فى بعض كتب التفسير إلى أن الطير الأبابيل كانت تلقى حجارة تحمل وباء يهتك جسد من يصيبه فيذوب لحمه وتتآكل عظامه ويهلك. وقد عرف العرب بعد هذه الواقعة وباء الجدرى لأول مرة فى تاريخهم، وعرفوا مرائر الشجر مثل الحنظل. وظل التهديد بالأوبئة جزءاً لا يتجزأ من الحياة فى مكة. لقد أراد الله تعالى أن يعلمهم به درس أن الله على كل شىء قدير، فهل تعلّموا؟ النجاة الحقيقية أن نتعلم.