بقلم: د. محمود خليل
لعبت مدرسة دار العلوم (كلية فيما بعد) دوراً مهماً فى التجربة الأدهمية لسيد قطب، الذى انتقل من قريته إلى القاهرة عام 1921، والتحق بدار المعلمين الأولية عام 1925 ودرس فيها لمدة 3 سنوات، ثم التحق بتجهيزية دار العلوم ومدة الدراسة فيها سنتان. وبعد الانتهاء منها التحق بكلية دار العلوم عام 1930. ودار العلوم هى نفس المدرسة التى تخرج فيها حسن البنا ليعمل بعدها مدرساً بمدارس وزارة المعارف، فى حين عمل سيد قطب بعد تخرجه مدرساً ثم موظفاً بالوزارة. ولا خلاف على أن هذه المدرسة كانت الأكثر اتساقاً مع ميول سيد قطب وقدراته كمشروع أديب أو ناقد أدب. وتجمع الدراسة فى كلية دار العلوم بين علوم اللغة والأدب والبلاغة من ناحية، وعلوم الشريعة من حديث وفقه وتفسير من ناحية أخرى. وثمة إشارات كثيرة فى كتابات «قطب» ترجح أن علوم الأدب كانت أكثر ما يشغل سيد قطب فى الدراسة بدار العلوم، وأنه تأثر فى دراسته ونظرته للعلوم الدينية بذائقته الأدبية أكثر مما تأثر بغيرها. ويمكننا الاستدلال على ذلك بكتابين ألَّفهما سيد قطب كان موضوعهما (القرآن الكريم)، لكن منهج البحث فيهما كان أدبياً بامتياز. وهما كتابا «التصوير الفنى فى القرآن» و«مشاهد القيامة فى القرآن».
فى العشرينات والثلاثينات من القرن الماضى كانت كلية الحقوق المفرخة الأدهمية الأولى للرموز الفكرية والسياسية التى دافعت عن الدولة الوطنية، فى حين كانت كلية دار العلوم البيت الكبير لتربية الكوادر الفكرية المحافظة المتمسكة بمفاهيم النهضة والجامعة الإسلامية. الفارق بين «الحقوق» و«دار العلوم» هو ببساطة الفارق بين مصطفى باشا النحاس زعيم الوفد وحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وهو أيضاً الفارق بين المؤيدين فى ذلك الوقت لفكرة الدولة الوطنية المستقلة التى تحتكم إلى دستور يقره الشعب وينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم فيها، والمؤيدين لفكرة دولة الخلافة والمنادين بشعار «القرآن دستورنا». وحقيقة الأمر فإن كلية دار العلوم تحتاج دراسة منفصلة، فبداخلها تربت أجيال من الأساتذة الذى نظر بعضهم إلى حسن البنا وسيد قطب كزعماء للإصلاح الدينى، ومثلت هذه الكلية خلال فترتى السبعينات والثمانينات الرافد الأبرز لـ«دعاة الإذاعة والتليفزيون» ممن حظوا بجماهيرية واضحة فى ذلك الحين (من بينهم على سبيل المثال الدكاترة أحمد شلبى وعبدالصبور شاهين وعبدالله شحاتة وغيرهم).
كان سيد قطب ناقماً على الدراسة بكلية دار العلوم، لأنها لا تمنح الأدب والنقد المساحة الكافية، ولا تهتم باللغات الأجنبية التى يمكن أن تفتح للطالب آفاقاً أكبر للتعلم والاطلاع. فى ذلك الوقت كان سيد قطب شديد الجرأة فى طرح أفكاره وتوجيه سهام نقده إلى أكبر القامات الأدبية فى مصر مثل أمير الشعراء أحمد شوقى والأديب مصطفى صادق الرافعى. وسمة الجرأة فى طرح الأفكار كانت من السمات التى صاحبت سيد قطب طيلة رحلته فى الحياة. وليس هناك شاهد أدل على ذلك من الأفكار التى طرحها فى كتابه «معالم فى الطريق»، ومن بينها اتهام المجتمع بل العالم بـ«الجهل والجاهلية». لم يكن «قطب» فى هذا السياق أقل جرأة من الدكتور طه حسين وهو يقف على الشاطئ المقابل لأفكار سيد قطب، طارحاً أفكاره حول مسألة «انتحال الشعر الجاهلى» فى كتابه المعنون بـ«الشعر الجاهلى»، ويقول فيه: «للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل لكن ذلك لا ينهض دليلاً على وجودهما». كان عصراً من الجرأة الأدهمية ساده نوع من «الإباحية الفكرية» للشىء ونقيضه.