بقلم : محمود خليل
ثلاث سنوات بائسة عاشتها الأدهمية المصرية (من 1967 إلى 1970). النفوس قلقة محبطة، والقرارات مضطربة، والصراع على قمة السلطة على أشده، وهو الصراع الذى انتهى بوفاة المشير عبدالحكيم عامر. حوارات «الأداهم» تحولت إلى خناقات تحركها أتفه الأسباب، وصلحهم طفولى يتم بأهون الكلمات. غناؤهم نواح، كتاباتهم عويل وصراخ. لم تكن النفسية الأدهمية على ما يرام. خاضت مصر حرباً شريفة لاستنزاف العدو، ولتعلن للعالم أنها لن تستسلم.
صدرت الأحكام ضد قادة الطيران المسئولين عن نكسة 67 فى 20 فبراير 1968، وقابلها الشعب بقدر من الهياج عبّر عنه فى البداية بالنكات والكتابة على «الحيطان»، والأحاديث الغاضبة فى وسائل النقل العام، ثم اتجه إلى التظاهر فى الشوارع. يسجل «أحمد كامل»، أمين منظمة الشباب فى مذكراته، أن السلطة تعمدت نشر الأحكام فى جريدة المساء حتى لا يكتسب الخبر أهمية إعلامية فما كان من الناس العاديين إلا أن مزقوا الصحيفة فى وسائل النقل العام مثلما داسوها على الأرصفة. فى اليوم التالى 21 فبراير تحول الغضب المكتوم إلى صرخات معلنة أخذت شكل مظاهرات عارمة اجتاحت الشوارع.
حزن «الأداهم» كان عظيماً، ولم يقلل منه نجاح قواتنا فى إيلام العدو فى معارك الاستنزاف، بل زاد الوجع عندما ردت الدولة العبرية على ذلك بالضرب فى العمق المصرى من خلال طائرات الفانتوم الأمريكية واستهدفت عمليات العدو المدنيين المصريين، أطفالاً فى بحر البقر، وكباراً فى قصف مصنع «أبوزعبل». وكان لهذه الضربات صدى سيئ على نفوس الأداهم، فأعاد إلى ذاكرتهم مشاهد حروب سابقة عانوا من ويلاتها قبل نجاح الحركة المباركة فى التخلص من الملكية. أضيفت إلى مآسى الأداهم مأساة أخرى تمثلت فى «تهجير أهالى مدن القناة». كان «المهجّرون» يحملون فى نفوسهم حزناً عميقاً وجرحاً لا يندمل. فليس من السهل على «الأدهم» ترك المكان الذى وُلد ونشأ فيه ونمت فوق ربوعه شبكة آماله وأحلامه. استمع إلى أغنية «يا بيوت السويس» لمحمد حمام التى وثقت حالة الوجع الذى شعر به المهجرون المصريون حينذاك.
حاول جمال عبدالناصر أن يبرد الجسد الأدهمى البارد من خلال فتح الباب قليلاً أمام حرية الرأى والتعبير. تحدثت أقلام صحفية عن الحرية والديمقراطية. انطلق صناع السينما هم الآخرون نحو التعامل مع مجموعة من النصوص الكاشفة للأوضاع التى لحقت بمصر خلال الفترة التى أعقبت ثورة يوليو 52 وحتى النكسة. عام 1968 أنتج فيلم «أرض النفاق» الذى كشف حالة الفساد الخلقى التى ضربت المجتمع المصرى، وكيف أن الطمع فى المغانم وضياع الأخلاق هما أساس «مجتمع النفاق»، وأنتج أيضاً فيلم «القضية 68» الذى لمَّح إلى قضية الحرية «نفتح الشباك ولا نقفله»، وفيلم «المتمردون» عن رواية المبدع «صلاح حافظ» ويناقش فكرة الثورة على الظلم. وفى عام 1969 تعامل فيلم «شىء من الخوف» مع فكرة القهر الذى يمارسه المستبد ضد البسطاء، وزراعة الخوف داخل وجدانهم بصورة تحول بينهم وبين الانتفاض ضده. وفيلم «ميرامار» الذى نكأ الكثير من الجروح التى أصابت المجتمع المصرى بعد ثورة 52 والفساد الذى نخر فى الاتحاد الاشتراكى. وفى عام 1971 -بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر- ظهر فيلم «ثرثرة فوق النيل» الذى كشف الحال التى وصلت إليها النخبة وأفراد الشعب العاديون حين تحول الطرفان إلى مجموعة من المساطيل.
شاء الله أن ينتهى المشهد برمته أواخر عام 1970، ففى 7 أغسطس من هذا العام انتهت مواجهات الاستنزاف بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر بعد قبوله مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار، وفى 28 سبتمبر من العام نفسه توفى الرئيس جمال عبدالناصر.