بقلم: د. محمود خليل
كانت دولة العراق -ولم تزل- الساحة التى تحتضن أية مواجهات تنشأ بين إيران وغيرها من القوى المناوئة لها. فإيران تعتبر هذه الدولة -عبر مراحل مختلفة من التاريخ- رأس الحربة المناسب لها الذى تستطيع من خلاله أن تدير معاركها من الخارج بعيداً عن أرضها. وما أكثر ما حرصت على إيجاد أنظمة موالية لها داخل هذا القطر العربى. قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم سيطر الفرس على العراق وأقاموا حكومة موالية لهم عبر تجربة «دولة المناذرة» وكان حاكمها يلقب بـ«ملك العرب» ويخضع بشكل كامل لإمبراطور العجم (كسرى فارس). وعندما قرر عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، الدخول فى مواجهة مع الفرس، وكانت مواجهة مؤجلة حتى يتم الفراغ من السيطرة على دولة الغساسنة التابعة للروم بالشام، كانت العراق ساحة لسلسلة المعارك الكبرى التى دارت على هذا المستوى، وأولها واقعة الجسر التى هزم فيها العرب هزيمة منكرة، ومات أغلبهم غرقاً فى ماء الفرات، ثم معركة القادسية التى قادها سعد بن أبى وقاص بجيش يزيد تعداده على 10 آلاف مقاتل، وانتهت بانتصار العرب على دولة المناذرة ليزحفوا بعدها إلى داخل إيران ويضعوا أيديهم على المدائن عاصمة الفرس. وبعدها تعددت أوجه الكر والفر بين الفرس والعرب، وكان الموضوع دائماً هو «العراق» التى شكلت السيطرة عليها هدفاً أساسياً من أهداف صانع القرار الإيرانى.
عندما نجحت الثورة الإسلامية فى إيران -عام 1979- فى الإطاحة بصاحب عرش الطاووس الإمبراطور محمد رضا بهلوى، شجعت دول الخليج وغيرها من البلاد العربية صدام حسين على الهجوم على إيران، وقد نجحت العراق فى بدايتها وسيطرت على أراضٍ إيرانية، لكن الأمور سارت بعد ذلك عكس الاتجاه، وكاد الإيرانيون أن ينجحوا فى الوصول إلى بغداد بعد معركة «الفاو» الشهيرة، لكن تدخل بعض الدول العربية حال دون ذلك. استمرت هذه الحرب 8 سنوات متصلة حتى توقفت، بعدها حدث ما تعلمه من غزو صدام للكويت وما أعقبه من دخول الأمريكان بكثافة إلى المنطقة، ثم كان الغزو الأمريكى للعراق عام 2003 وما ترتب عليه من سيطرة إيران على العراق ونجاحها فى إيجاد حكومة موالية لها فى بغداد.
اليوم تعود العراق من جديد لتصبح ساحة للمعركة التى تهدد بها إيران بعد اغتيال قاسم سليمانى قائد فيلق القدس. وقد وقعت عملية الاغتيال على أرضها قرب مطار بغداد الدولى. حكومة بغداد تتحرك الآن بخطوات تصب جميعها فى فكرة «الانتقام الإيرانى» لمقتل «سليمانى». فالمطالبة بجلاء القوات الأمريكية عن العراق هو بالأصل مطلب إيرانى، وترديده على لسان المسئولين العراقيين يكسبه صفة وطنية. والنتيجة الطبيعية لهذه التفاعلات أن تعود العراق إلى قدرها المعهود كساحة مواجهة، ولكن هذه المرة بين الإيرانيين والأمريكان، كما كانت بالأمس القريب ساحة مواجهة بين أمريكا المتحالفة مع إيران ضد صدام حسين، وكما كانت بالأمس البعيد ساحة للمواجهة بين العرب والفرس.