بقلم: د. محمود خليل
كانت نكسة يونيو 1967 سبباً -ضمن مجموعة أسباب قد نتوقف أمامها فيما بعد- فى الهزة النفسية التى أصابت المجتمع، فبعدها أصبح للتفاهة جمهور. هو ببساطة الجمهور الباحث عن اللاشىء بعد سنوات أدرك فيها حجم الكذب والمبالغة الذى كانت الأغنية تضعه فيه. فوق حنجرة عبدالحليم حافظ، وبإبداع الأبنودى وصلاح جاهين تشكل أكبر منشور سياسى مدافع عن سياسات وتوجهات الستينات، وأكبر بيان لحالة القوة والتحقيق والإنجازات التى تنعم بها مصر. مؤكد أن بعضها كان يعبر عن عمل حقيقى على أرض الواقع وأثر ملموس فى حياة الناس، لكن حجم المبالغة والكذب كان يغطى باستمرار على مساحات الصدق. وفى النهاية استيقظ المصريون على صوت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وهو يعلن الهزيمة والتنحى.
الهزة النفسية التى ضربت قسماً لا بأس به من الجمهور فى ذلك الوقت جعلته يميل إلى التفاهة ليس فى مجال الأغنية أو الطرب وفقط، بل وفى مجال السينما أيضاً. وهو تحول أدركه كبار هذه الصناعة حينها فبدأوا يستجيبون له بصورة تدعو إلى الاستغراب. تحول خطير حدث فى صناعة السينما عند الانتقال من الستينات إلى السبعينات. ومن الممكن أن نستشهد فى هذا السياق بحالة واحد من كبار مخرجينا، وهو المبدع حسين كمال. كان المخرج الراحل واحداً من أكثر المهتمين باختيار أعماله من بين قصص كبار كتاب الأدب فى مصر، فهو صاحب فيلم «شىء من الخوف» عن قصة بنفس العنوان للكاتب «ثروت أباظة»، وفيلم «البوسطجى» عن قصة ليحيى حقى، وفيلم «المستحيل» عن نص لمصطفى محمود، وفيلم «نحن لا نزرع الشوك» عن قصة يوسف السباعى. أواخر الستينات أخرج حسين كمال فيلماً أحدث ضجة فى حينه بسبب غرابته، وهو فيلم «أبى فوق الشجرة» عن قصة لإحسان عبدالقدوس (قام المخرج بتعديلها خلافاً لنصها الأصلى كما أكد المؤلف). من عاصر هذا الفيلم وشاهده «سينما» يذكر رد فعل الجمهور المصرى عليه. حقق الفيلم أرقاماً كبيرة على مستوى المشاهدة والإيرادات، لكنه لم يبق فى ذاكرة الناس، أو مثّل علامة فى التاريخ الخصب للمخرج حسين كمال.
«أبى فوق الشجرة» شكّل التعبير الأهم عن التحول من سينما القصة إلى سينما المناظر. فبعد أن كانت المرأة الصلبة (فؤادة فى فيلم «شىء من الخوف»)، والأنثى المتمردة على التقاليد (جميلة فى فيلم «البوسطجى») أصبحت الراقصة (فردوس) هى البطلة. وبعد أن كانت القرية ومواقع الحياة العادية بالمدينة هى مسرح الأحداث، أصبح البلاج هو الأساس. التحول من القصة إلى المناظر تواصل إلى حد السيطرة على الإنتاج السينمائى والدرامى خلال العقود التالية للسبعينات -مع وجود استثناءات بالطبع- فأصبح المنتج غير مهتم بفكرة العمل أو ماذا يقول، بل ماذا ستنقل الصورة، وكيف ستدغدغ غرائز المشاهد الذى أصبح يعامل وكأنه طفل محدود العقل، أو سفيه يفكر بعينيه.
أذواق الناس مختلفة، هذا أمر لا خلاف عليه. والناس لا بد أن تجد التافه إلى جوار الجيد، أما أن تسيطر التفاهة فذلك هو جوهر الخطر. هذه نقطة لا بد أن نلتفت إليها. النقطة الثانية تتعلق بضرورة التفرقة بين المنتج الفنى الاستهلاكى، والمنتج الباقى. ولست بحاجة إلى تذكيرك بمغنين وأغانٍ وأفلام عديدة كسَّرت الدنيا حين ظهورها، ثم تحولت إلى مجرد فضلات لفظتها الذاكرة الجمعية التى لا تجيد الاحتفاظ إلا بما هو جيد ومفيد.