بقلم : د. محمود خليل
تولى عباس الأول -حفيد محمد على- حكم مصر عام 1846، بعد أن اعتلَّت صحة محمد على وولده إبراهيم باشا. واتسم حكمه بنوع من الانغلاق بعد حالة الانفتاح التى عاشتها مصر أيام محمد على، فقد أدرك الرجل أن الحروب التى خاضها جده والصراعات التى دخل فيها مع أوروبا أنهكت الدولة المصرية، وجعلتها بحاجة إلى فترة صمت أو راحة محارب. ورغم ما يُكيله المؤرخون من طعن وغمز ولمز فى حق هذا الرجل، فإن كتب التاريخ تؤكد أن مصر عرفت «السكة الحديد» أول ما عرفتها فى عهده. ففى أيامه أُنشئ أول خط حديدى فى مصر، بل فى ممالك الشرق كلها، كما يقول سليم حسن فى كتابه «مصر من الفتح العثمانى إلى قبيل الوقت الحاضر»، وهو الخط الممتد بين القاهرة والإسكندرية. وقد قام بهذا المشروع «روبرت استيفنسين» مخترع القطُر البخارية، إذ أخذ على عاتقه تنفيذ المهمة، وبدأها عام 1852، وانتهى منها عام 1856. وكانت الحكومة الإنجليزية الموعز لمد هذه السكة لتسهيل نقل البريد والمسافرين بين الهند وأوروبا عن طريق مصر. وبغضّ النظر عن النشأة الاستعمارية للسكة الحديد فى مصر، فإنها مثَّلت واحدة من أهم النقلات الحضارية فى تاريخها.
اعتلى الوالى سعيد بن محمد على سدة حكم البلاد بعد مقتل عباس الأول، وكان من المهتمين أيضاً بأمر السكة الحديد، فمد خطوطها لعدة أميال، حتى وصلت المساحة التى تغطيها فى عصره إلى 246 ميلاً. مات سعيد وتولى من بعده إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد على، وكان أشد اهتماماً ممن سبقوه إلى الحكم بإتمام تجربة محمد على فى إعمار مصر، خصوصاً فيما يتعلق بتطوير خطوط السكة الحديد. يقول محمد صبرى السربونى، صاحب كتاب «تاريخ مصر من محمد على إلى العصر الحديث»: «ومد الخديو إسماعيل ألف ميل من الخطوط الحديدية فعمّت جهات القطر، علاوة على 246 ميلاً تركها سلفه».
الواضح أن عصر إسماعيل (جلس على كرسى الحكم سنة 1863 وعمره 32 عاماً) كان عصر «السكة الحديد» بامتياز، فقد كان الرجل شديد الاهتمام بجعل مصر قطعة من أوروبا، فاعتنى أشد الاعتناء بتمهيد الطرق وتمديد المواصلات، وربط مصر بشبكة نقل محكمة، لعبت فيها السكة الحديد دور البطولة. فرغم أن مصر عرفت السكة الحديد فى عصر الخديو سعيد، فإنه لم يمدد سوى 246 ميلاً. النهضة الحقيقية والطفرة الملحوظة التى شهدها هذا المرفق جاءت فى عصر إسماعيل الذى مدد 1000 ميل كاملة، أنفق عليها ما يقرب من عشرة آلاف جنيه مصرى. وقد شرع فى مدته أيضاً فى مد خط حديدى يخترق أواسط أفريقيا، مبتدئاً من دنقلة، فكان تصميمه يبلغ 1100 ميل، إلا أن العمل أُوقف لقلة المال.
قضبان السكك الحديدية كانت جزءاً من تاريخ الحركة الوطنية فى مصر، لا تدرى ما هو سر العداء بين المصريين وقضبان السكك الحديدية، فأمام أى تحرك جماهيرى تكون قضبان السكة الحديد وجهة الغاضبين يصبُّون فيها شحنة غضبهم، ومؤكد أنهم كانوا يفعلون ذلك أيضاً لمنع وصول الإمدادات إلى أعدائهم، خصوصاً فى عصر الاحتلال الإنجليزى. عندما قامت ثورة 1919 شارك فيها عمال السكة الحديد، وتمثلت مشاركتهم فى الثورة فى إتلاف مفاتيح القضبان والخط الحديدى بالقرب من إمبابة، فتعطلت قطارات الوجه القبلى. وتكفّل باقى المتظاهرين بخلع قضبان السكك الحديدية. لا يستطيع أحد أن يقرر على وجه الدقة هل هذا العداء مردُّه نشأة السكة الحديد فى أحضان المستعمر، فكان الوطنيون قبل الثورة يرون فى تحطيمها وإتلافها انتقاماً من المستعمر، دون اكتراث بالأضرار التى تلحق بهم نتيجة ذلك، أم أن المسألة كانت تقع ضمن التفكير التكتيكى للتعامل مع عدو يبغون إفقاده بعض الأدوات التى تساعده على التحرك ضدهم، ويستهدفون عزل مراكزه عن بعضها البعض، من خلال ضرب أدواته فى الاتصال؟ التاريخ يقول إن ثمة ما يشبه العداء بين المصريين وقضبان السكة الحديد.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع