بقلم: د. محمود خليل
يوافق يوم 21 يوليو الجارى الذكرى الستين لانطلاق البث التليفزيونى فى مصر. منذ أن نشأ فى كنف الدولة بدا التليفزيون الوسيلة الرسمية التى وظفتها السلطة السياسية فى الستينات وما تلاها للتأثير الناعم على المصريين وإقناعهم بقراراتها وتوجهاتها ومشروعاتها. أغلب التليفزيونات العربية نشأت على هذا النحو وأدت الوظيفة نفسها.
لم يكن التليفزيون المصرى وهو ينشأ فى كنف الدولة استثناء بين وسائل الإعلام المختلفة. فقد سبقه إلى ذلك الصحافة التى نشأت ضمن أدوات الدولة الحديثة التى سعى محمد على إلى بنائها، ثم ظهرت الصحف الشعبية فى عصر إسماعيل، محكومة بوهم الاستقلالية عن السلطة، وهو وَهْم تبدد لدى صُناعها وكذلك لدى الجمهور، عندما أدرك الطرفان أنها ليست أكثر من واجهة جديدة للسلطة. الأمر نفسه تكرر فى التجربة التليفزيونية، فبعد 40 عاماً من انطلاق التليفزيون المصرى بدأت قنوات التليفزيون التجارى فى الظهور مطلع القرن الحالى، ورغم أنها لم تكن مملوكة رسمياً للدولة كما هو الحال بالنسبة للقنوات الرسمية، فإنها كانت مقيدة بخطوط وحدود لا تستطيع تجاوزها.
عبر تجربة العقود الستة مع التليفزيون اعتبره الكثير من المصريين «صندوقاً للتسلية» بالنسبة الأكبر، ووسيلة تثقيف بدرجة متوسطة، وأداة للإعلام بنسبة محدودة. فالطابع الرسمى الغالب عليه طيلة فترة الستينات وما تلاها من حقب جعل الناس لا تصدقه إلا فى الأخبار السيئة. فقد كان يكذب فى بعض الأحوال على الناس وهو يحدثهم عن مسارات حرب اليمن (اندلعت عام 1962) وعن الاستعداد لطرد الصهاينة من إسرائيل قبل يونيو 1967، ثم دهم المشاهد فى لحظة لا تنسى بأكثر الأخبار سوءاً فى تاريخنا، خبر النكسة.
أحب المصريون التليفزيون كصندوق للتسلية، وأحياناً للتثقيف. خلال فترة الستينات كانت الناس تتحلق حول شاشته الفضية لتشاهد أرفع الأعمال التمثيلية. كانت مصر حينها مزدحمة بالأدباء والمفكرين والتنويريين والفنانين. كان الناس يلزمون البيوت وقت إذاعة مسلسل الساقية بأجزائه الثلاثة: الضحية والرحيل والنصيب لعبدالمنعم الصاوى، وأعمال طه حسين وأيمن يوسف غراب ومحمد عبدالحليم عبدالله، وكذلك بعض النصوص الأدبية العالمية. يشاهدون لقاءات مع العقاد وعبدالرحمن الرافعى ومرسى جميل عزيز وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وغيرهم، يتابعون حفلات أم كلثوم وفريد وعبدالحليم. فالسلطة كانت ميالة إلى الكذب على مستوى السياسة، لكنها أفسحت المجال لنوع من الصدق فى الفن والثقافة، وأحب الناس ما صدقت فيه.
بدءاً من فترة السبعينات بدأ قطار الموت يحمل فى عرباته العديد من الكبار فى مجال الفن والثقافة، لكن ظهرت أسماء جديدة كان لها عطاؤها فى مجال الدراما التليفزيونية على سبيل المثال، مثل أسامة أنور عكاشة ومحسن زايد وفخر الدين صلاح وإسماعيل عبدالحافظ وغيرهم فسدُّوا بعض الفراغ الحاصل فى مساحة الصدق داخل المنتج التليفزيونى.
ومع مطلع القرن الجديد وظهور القنوات التجارية وتحوّل الإبداع إلى نوع من «التهليس» و«التهجيص» تقلصت المساحة المحببة لدى الجمهور، ومع وجود البديل العربى أو التركى أو الهندى أو الغربى، بل ووجود بدائل إخبارية عديدة، دخلت قنوات التليفزيون المصرى (رسمى وتجارى) فى حالة شرنقة على الذات وبدأت تنسحب شيئاً فشيئاً. ترى ما هو المكان الأرشد الذى يمكن أن نجد هذه القنوات فيه اليوم؟