بقلم: د. محمود خليل
ما أكثر ما استُخدم الإسلام فى ساحة السياسة. وما أقل توظيفه فى ساحة المجتمع. فى عالم السياسة يشكل الدين الأداة الأسهل والأقل تكلفة للحشد والتعبئة، سواء تم ذلك لحساب الحكومات أو لصالح من ينافسون على الحكم (المعارضين). أما فى ساحة المجتمع فالأمر يختلف. فحجم الجهد المبذول لتوظيف القيم الدينية كأداة للإصلاح الاجتماعى محدود للغاية، وذلك لعدة أسباب، من بينها أن أغلب المعنيين بالمسألة الدينية يجدون فى ساحتى الحكم والمعارضة نفعاً أكبر ومصالح أوسع من العمل فى ساحة المجتمع. كما أن عوائد التوظيف السياسى للدين أسرع من نواتج توظيفه فى الإصلاح الاجتماعى الذى يتطلب جهداً أكبر وصبراً أطول على قطف ثمرته. فحشد الناس تحت يافطة الدين يسير، أما تنقية وعيهم وتطوير أساليب تفكيرهم وأنماط سلوكهم بالاستناد إلى قيم وأخلاقيات الدين فأمر عسير.
منذ الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801) وحتى يوم الناس هذا يمثل الشيخ الإمام محمد عبده نموذجاً فريداً -ولا أريد أن أبالغ وأقول وحيداً- لتوظيف الدين كأداة للإصلاح الاجتماعى. وقد اهتدى الشيخ إلى هذا الطريق بعد تجربة مريرة عاشها إبان الثورة العرابية، حيث وظّف العرابيون الدين -ضمن مجموعة من الأدوات- فى حشد الأهالى من ورائهم، ولم يعدم الخديو توفيق (سلطة الحكم) هو الآخر وسيلة لتوظيف الدين كأداة لصرف الأهالى عن زعيم الثورة «أحمد عرابى» حين تواطأ مع الباب العالى على إصدار فرمان بعصيان عرابى. بعد هذه التجربة اتجه محمد عبده إلى اشتقاق وبلورة نظريته فى توظيف الدين كأداة للإصلاح الاجتماعى. اختار الإمام فكرة «العصرنة» وتجديد فهم الفرد والمجتمع للموروث والتحديد الدقيق لموقع الدين وأدواره فى الحياة الاجتماعية، وتفعيل دوره فى تهذيب السلوك الاجتماعى، وتنقية العقل الدينى المصرى مما علق به من جهالات وضلالات وفهوم خاطئة موروثة وتصحيح الفهوم الشعبوية الملتبسة لبعض المسائل الدينية الحياتية.
جعل الإمام من الدين أداة للتنوير الاجتماعى، خلافاً لمستويات توظيفه «السياسى» فى العصر المملوكى/العثمانى، وكان واعياً بأن التنوير الاجتماعى هو المقدمة الأهم للنهضة، وأن التغيير الثقافى المتدرج -على ما يستلزمه من جهد ووقت طويل- مضمون النتائج والعواقب مقارنة بالتغيير الثورى. الإصلاح الدينى والثقافى كان يعنى -من وجهة نظر الإمام- السير فى طريق «التمدن». يصف الشيخ معنى التمدن قائلاً: «التفنن فى الصنائع فصل من فصوله، والتسابق فى ميادين العلم باب من أبوابه، والتجافى عن موضع النقيصة جزء منه، والتجمل بالأخلاق الفاضلة نبذ من جواهره». التمدن إذاً مركب يشتمل على عدد من العناصر أبرزها الأخذ بالعلم والصناعة (التكنولوجيا)، والسمو الأخلاقى والابتعاد عن النقائص السلوكية. ويرى الإمام أن الأمم المتخلفة تفهم التمدن فهماً خاطئاً حين تحوّله إلى نوع من المظهرية الكاذبة التى تدفع الإنسان إلى استنزاف نفسه وماله فى أمور استهلاكية يستكثر فيها من أشياء لا يحتاج إليها ويسلك سلوكاً معيشياً مداره السفه والإسراف.
تصادم الاتجاه الذى تبناه الإمام مع مصالح العديد من القوى التى دأبت على التوظيف السياسى للدين، بسبب تعارضه مع منظومة مصالحهم. أصر هؤلاء على جر الدين إلى ساحة السياسة. وبمرور الوقت تاهت نظرية الإمام فى دروب الحكومات التى تتخفى وراء الدين، والمعارضة التى تمتطى صهوته وتجعل منه سيفاً فى ساحة الصراع على الحكم.
من هنا كافأ الزمن الأمير محمد على مشروعه فى «مسك» كى يكون لديه مصنع وخزان بشرى لتخريج دفعات من القوة الشابة الناعمة القادرة على تحويل الرؤية الطموحة إلى واقع حقيقى وإنجاز كفء ينقل البلاد والعباد إلى ما يعرف بالسعودية الجديدة.
وقد يهمك أيضًا: