بقلم: د. محمود خليل
فى بدايات حكم محمد على نعمت رموز الحركة الشعبية بأدوار محسوسة أنعشت إحساسه بذاته. فقد اعتاد الوالى أن يعود إلى المشايخ -وعلى رأسهم عمر مكرم- فى أى ضريبة جديدة يفرضها على الناس، وكانت مثل هذه الأمور تتم بالتفاهم بين الطرفين. «أدهم المصرى» كان سعيداً بذلك كل السعادة، لأنه تعود أن يفرح بتقليل الحمول التى تثقل كاهله حتى يتمكن من ممارسة هوايته المحببة فى التمدد. وقد قابل معروف الباشا بتخفيف أعبائه المعيشية بالدفاع عنه ضد محاولات الإطاحة به من جانب المماليك والسلطنة العثمانية.
وفى وقت يحكى فيه «الجبرتى» أن الأهالى هربوا بمالهم وأولادهم لما سمعوا بقرب وصول نابليون وحملته إلى القاهرة عام 1798، يحتفى المؤرخ الكبير بالدور الذى لعبه بسطاء المصريين فى مواجهة الحملة الإنجليزية عام 1807 فى وقت كان فيه محمد على منشغلاً بمطاردة المماليك فى الصعيد.
لم تدم شهور العسل بين الطرفين طويلاً. فقد كان الوالى يريد أن يضع كل السلطات فى يده حتى يتمكن من إنفاذ مشروعه النهضوى، وكان يعلم أن تدخل المشايخ فى كل صغيرة وكبيرة يغل من قدرته على الحركة واتخاذ القرار، لكنه لم يقدم على التحرك إلا بعد أن تهيأت الظروف وأخذت الظاهرة الشعبية تأكل نفسها من الداخل بفعل المنافسة والغيرة والحسد بين الزعامات، وكان عمر مكرم قبلة حقدهم لما ناله من المنزلة والرياسة، لكن يبقى أن التحول الأهم الذى أدى إلى المواجهة تمثل فى استيقاظ «أدهم المصرى» الكامن داخل نفس الشيخ عمر مكرم، عندما بدأت قرارات الباشا تضر بمصالحه.
فإرضاءً لرموز الزعامة الشعبية وعلى رأسهم عمر مكرم بادر محمد على إلى إعفاء أملاكهم وضياعهم وما دخل فى التزامهم من دفع ضريبة (الفائض) وكذلك شمل بهذا الإعفاء أملاك من ينتمون إليهم. انطلق «أدهم» وهو سعيد بهذا التمييز وأكثر من شراء الأراضى والمحاصيل من أصحابها المحتاجين، واغتر بالدنيا وافتتن بها. ووقعت المواجهة بين الطرفين عندما اشتدت الأزمة الاقتصادية بالبلاد عام 1808 وفرض الباشا ضرائب جديدة على الناس، فهرع الأهالى إلى المشايخ يستنجدون بهم فخاطبوا الوالى فى الأمر فغضب وسخر منهم وذكر لهم أنهم أظلم للأهالى منه لأنهم كانوا يحصّلون منهم الضرائب التى أعفى أراضيهم والتزاماتهم منها.
تعقد الأمر أكثر وأكثر حين أصر أدهم المصرى الكامن داخل كل شيخ وعالم على الدفاع عن مصالحه بأى ثمن، فتنازعوا ودبت الفرقة بينهم، الأمر الذى يسر لمحمد على شراء بعضهم بالمصالح للسكوت عنه، أما من أراد أن يجمع بين الحفاظ على مصالحه والاحتفاظ بصورته لدى الناس كبطل شعبى، مثل الزعيم عمر مكرم، فقد تخلص منه ونفاه إلى دمياط.
ظل المصريون يتحركون بإشارة من أصبع من عمر مكرم أيام الحملة الفرنسية، وعندما هرب إلى خارج مصر خوفاً من سارى عسكر الحملة، كان المصريون متشوقون إلى عودته، ولما عاد قبيل خروج الحملة التف الناس حوله، وحتى تولى محمد على الحكم عام 1805 وما بعد هذا العام ظل عمر مكرم واحداً من الفاعلين الأساسيين داخل المشهد السياسى المصرى، لكن أحواله اختلفت عندما خرج «الأدهم» الكامن بداخله، فوجدناه ينظر إلى الأمور من زاوية الدفاع عن مصالحه وعيشته الراضية. وعندما قرر الوالى نفيه إلى دمياط لم يتحرك من أجله أحد وساد شوارع المحروسة هدوء عجيب!