توقيت القاهرة المحلي 10:17:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رحلة أدهمية إلى أمريكا

  مصر اليوم -

رحلة أدهمية إلى أمريكا

بقلم: د. محمود خليل

ربما يكون نجيب محفوظ قد وضع يده على إحدى العقد الأدهمية التى حكمت شخصية سيد قطب، وهى عقدة التمكن من لغة أجنبية. فأغلب المفكرين والأدباء من أداهم عصره كانوا يجيدون واحدة أو أكثر من اللغات الأجنبية، مثل طه حسين والعقاد. وقد ذكرت لك أن عدم الاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية كان واحداً من أسباب نقمة سيد قطب على نظام التعليم بكلية دار العلوم، وقد طالب أكثر من مرة بتطويرها فى هذا الجانب. وقد واتته فرصة كبيرة لتعويض هذا النقص فى تكوينه عندما وافقت وزارة المعارف على سفره فى بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قضى ما يقارب السنتين هناك، ولا نستطيع أن نقرر على وجه التحديد مدى استفادة «قطب» من هذه الفرصة، لكن كتابات عديدة، بما فيها مقالات كتبها بنفسه حول تجربته فى أمريكا، تشير إلى أنه خاض رحلته بمنطق العداء وليس الاكتشاف أو التعلم، وأنه كان يشعر أنه أكبر من أن يجد فى هذا المجتمع ما يضيف إليه أو ما يفيده.

يشير سيد قطب فى اعترافاته فى قضية 1965 إلى أنه لاحظ أن الصحف الأمريكية احتفت باغتيال حسن البنا عام 1949 بصورة استوقفته وجعلته يتساءل حول موقف الغرب من الإسلام، وأن فرحته باغتيال مرشد الإخوان دليل على أنه يتآمر على العالم الإسلامى ولا يريد أن يبرز بداخله جماعة أو حركة تعيده إلى جوهر الإسلام. وإذا أخذنا فى الاعتبار أن سيد قطب كان يحكى عن واقعة حدثت بعد أشهر قليلة من سفره عام 1948 فإن ذلك يعنى أنه بدأ التجربة بالعداء. نشر سيد قطب فى مجلة «الرسالة» مقالات ثلاثة تحت عنوان «أمريكا التى رأيت» رسم فيها صورة للولايات المتحدة من وجهة نظره.

عرض سيد قطب لأمريكا صورة ثلاثية الأبعاد، قاعدتها «الآلة». فالآلة هناك هى أساس العمل وهى تعكس التطور العلمى والتكنولوجى الملحوظ فى هذا البلد، حتى الإنسان الأمريكى نفسه يعمل مثل الآلة. والضلع الأول الذى يخرج من طرف هذه القاعدة يتمثل فى عدم احترام الموت أو تقديسه، أما الضلع الثانى فيتحدد فى الولع بالجنس. وفى ضوء هذه الثلاثية يحكم سيد قطب على المجتمع الأمريكى بالمادية والخواء الروحى والقيمى والاستخفاف بفكرة الدين، وأن البشر هناك تحولوا إلى مجموعة من الآلات التى لا تشعر ولا تحس. والقارئ لمقالات سيد قطب عن الحياة الأمريكية يشعر بمجموعة المشكلات التى تحكم نظرته إلى الظواهر والأشياء. وأولها عدم الاهتمام بالفروق الثقافية بين المجتمعات. ذهب سيد قطب إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعقل شرقى ففاجأه ما يرى من سلوكيات مختلفة عن المجتمع الذى جاء منه فأخذ يحاكمه بمعاييره الشرقية، ولم يفهم أن الحكم على قيم أى مجتمع أساسه اتساق أفراده معها من عدمه. والأمريكى شأنه شأن الشرقى متسق مع طبيعة مجتمعه. المشكلة الثانية تتمثل فى الاستخفاف بما لا يصح الاستخفاف به، فقد استهان سيد قطب بالتطور العلمى والتكنولوجى السائد فى المجتمع الأمريكى، ولم يتوقف أمام حقيقة أن تفوق الغرب فى هذين المجالين كان السبب فى استعمار البلد الذى جاء منه حتى اللحظة التى كان يسطر فيها مقالاته. المشكلة الثالثة تتعلق بهدف بعثة سيد قطب إلى الولايات المتحدة الأمريكية والمتمثل فى الوقوف على النظم التعليمية والتربوية هناك لإعداد تقرير يؤسس لتطوير التعليم فى مصر. والمتتبع لما كتبه سيد قطب عن زيارته التى استغرقت سنتين للولايات المتحدة لا يكاد يظفر بسطر واحد حول هذا الموضوع.

تجربة سيد قطب فى الولايات المتحدة كانت تجربة دفاعية إلى حد كبير، فقد عبّأ نفسه بكل الموروث الشرقى، وتدثر به، رغم ما كان يوجهه له من نقد فى بعض الأحوال وهو يعيش فى مصر، إلا أنه تمسك به كل التمسك وأخذ يجلد المجتمع الأمريكى به. وعندما عاد إلى القاهرة كان قد نسى تماماً مشروعه كناقد أدبى ومحاولاته كشاعر وروائى، ويبدو أنه فكر فى أمر نفسه وراجع مسيرة حياته خلال فترة وجوده فى الولايات المتحدة فأدرك أن ما حققه فى مجالى النقد والأدب لم يشبع طموحه ولم يحقق حلمه فى أن يكون أميراً للشعر كما كان «شوقى» أو أستاذاً وصاحب مدرسة علمية وفكرية مثل «طه حسين» أو ملكاً متوجاً على عرش الفكر والثقافة كما كان «العقاد». ويبدو أن حالة الحفاوة التى استقبل بها الإخوان كتابه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» قفزت فى ذهنه فى ذلك الوقت، فاختار الجلوس على عرش الجماعة.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رحلة أدهمية إلى أمريكا رحلة أدهمية إلى أمريكا



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 23:13 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
  مصر اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 04:48 2019 الإثنين ,08 إبريل / نيسان

أصالة تحيى حفلا في السعودية للمرة الثانية

GMT 06:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

محشي البصل على الطريقة السعودية

GMT 04:29 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشّف حقيقة مشاركتها في الجزء الثالث من "كلبش"

GMT 19:36 2018 الأحد ,22 إبريل / نيسان

تقنية الفيديو تنصف إيكاردي نجم إنتر ميلان

GMT 13:02 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

علماء يكشفون «حقائق مذهلة» عن السلاحف البحرية

GMT 20:26 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

إيران توقف “تليجرام” لدواع أمنية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon