بقلم: د. محمود خليل
ربما يكون نجيب محفوظ قد وضع يده على إحدى العقد الأدهمية التى حكمت شخصية سيد قطب، وهى عقدة التمكن من لغة أجنبية. فأغلب المفكرين والأدباء من أداهم عصره كانوا يجيدون واحدة أو أكثر من اللغات الأجنبية، مثل طه حسين والعقاد. وقد ذكرت لك أن عدم الاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية كان واحداً من أسباب نقمة سيد قطب على نظام التعليم بكلية دار العلوم، وقد طالب أكثر من مرة بتطويرها فى هذا الجانب. وقد واتته فرصة كبيرة لتعويض هذا النقص فى تكوينه عندما وافقت وزارة المعارف على سفره فى بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قضى ما يقارب السنتين هناك، ولا نستطيع أن نقرر على وجه التحديد مدى استفادة «قطب» من هذه الفرصة، لكن كتابات عديدة، بما فيها مقالات كتبها بنفسه حول تجربته فى أمريكا، تشير إلى أنه خاض رحلته بمنطق العداء وليس الاكتشاف أو التعلم، وأنه كان يشعر أنه أكبر من أن يجد فى هذا المجتمع ما يضيف إليه أو ما يفيده.
يشير سيد قطب فى اعترافاته فى قضية 1965 إلى أنه لاحظ أن الصحف الأمريكية احتفت باغتيال حسن البنا عام 1949 بصورة استوقفته وجعلته يتساءل حول موقف الغرب من الإسلام، وأن فرحته باغتيال مرشد الإخوان دليل على أنه يتآمر على العالم الإسلامى ولا يريد أن يبرز بداخله جماعة أو حركة تعيده إلى جوهر الإسلام. وإذا أخذنا فى الاعتبار أن سيد قطب كان يحكى عن واقعة حدثت بعد أشهر قليلة من سفره عام 1948 فإن ذلك يعنى أنه بدأ التجربة بالعداء. نشر سيد قطب فى مجلة «الرسالة» مقالات ثلاثة تحت عنوان «أمريكا التى رأيت» رسم فيها صورة للولايات المتحدة من وجهة نظره.
عرض سيد قطب لأمريكا صورة ثلاثية الأبعاد، قاعدتها «الآلة». فالآلة هناك هى أساس العمل وهى تعكس التطور العلمى والتكنولوجى الملحوظ فى هذا البلد، حتى الإنسان الأمريكى نفسه يعمل مثل الآلة. والضلع الأول الذى يخرج من طرف هذه القاعدة يتمثل فى عدم احترام الموت أو تقديسه، أما الضلع الثانى فيتحدد فى الولع بالجنس. وفى ضوء هذه الثلاثية يحكم سيد قطب على المجتمع الأمريكى بالمادية والخواء الروحى والقيمى والاستخفاف بفكرة الدين، وأن البشر هناك تحولوا إلى مجموعة من الآلات التى لا تشعر ولا تحس. والقارئ لمقالات سيد قطب عن الحياة الأمريكية يشعر بمجموعة المشكلات التى تحكم نظرته إلى الظواهر والأشياء. وأولها عدم الاهتمام بالفروق الثقافية بين المجتمعات. ذهب سيد قطب إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعقل شرقى ففاجأه ما يرى من سلوكيات مختلفة عن المجتمع الذى جاء منه فأخذ يحاكمه بمعاييره الشرقية، ولم يفهم أن الحكم على قيم أى مجتمع أساسه اتساق أفراده معها من عدمه. والأمريكى شأنه شأن الشرقى متسق مع طبيعة مجتمعه. المشكلة الثانية تتمثل فى الاستخفاف بما لا يصح الاستخفاف به، فقد استهان سيد قطب بالتطور العلمى والتكنولوجى السائد فى المجتمع الأمريكى، ولم يتوقف أمام حقيقة أن تفوق الغرب فى هذين المجالين كان السبب فى استعمار البلد الذى جاء منه حتى اللحظة التى كان يسطر فيها مقالاته. المشكلة الثالثة تتعلق بهدف بعثة سيد قطب إلى الولايات المتحدة الأمريكية والمتمثل فى الوقوف على النظم التعليمية والتربوية هناك لإعداد تقرير يؤسس لتطوير التعليم فى مصر. والمتتبع لما كتبه سيد قطب عن زيارته التى استغرقت سنتين للولايات المتحدة لا يكاد يظفر بسطر واحد حول هذا الموضوع.
تجربة سيد قطب فى الولايات المتحدة كانت تجربة دفاعية إلى حد كبير، فقد عبّأ نفسه بكل الموروث الشرقى، وتدثر به، رغم ما كان يوجهه له من نقد فى بعض الأحوال وهو يعيش فى مصر، إلا أنه تمسك به كل التمسك وأخذ يجلد المجتمع الأمريكى به. وعندما عاد إلى القاهرة كان قد نسى تماماً مشروعه كناقد أدبى ومحاولاته كشاعر وروائى، ويبدو أنه فكر فى أمر نفسه وراجع مسيرة حياته خلال فترة وجوده فى الولايات المتحدة فأدرك أن ما حققه فى مجالى النقد والأدب لم يشبع طموحه ولم يحقق حلمه فى أن يكون أميراً للشعر كما كان «شوقى» أو أستاذاً وصاحب مدرسة علمية وفكرية مثل «طه حسين» أو ملكاً متوجاً على عرش الفكر والثقافة كما كان «العقاد». ويبدو أن حالة الحفاوة التى استقبل بها الإخوان كتابه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» قفزت فى ذهنه فى ذلك الوقت، فاختار الجلوس على عرش الجماعة.