بقلم: د. محمود خليل
تمر هذه الأيام ذكرى مولد الإمام الحسين بن على رضى الله عنهما. فى كل المجتمعات المسلمة يحظى «الحسين» بمكانة معتبرة، ويتمتع برمزية خاصة فى نفوس المسلمين. اكتسب «الحسين» رمزيته من واحدة من كبريات المآسى التاريخية التى عاشها المسلمون والتى لا تزال تمارس تأثيرها على واقعهم حتى يوم الناس هذا، يضاف إلى ذلك الصورة التى تشكّل بها فى الوجدان المسلم، وهى صورة «الرومانسى الثورى». عاش الحسين ثائراً على الواقع المر الذى فرضه بنو أمية على أبيه «على» ثم أخيه «الحسن» ثم على الأمة الإسلامية، حين استخدموا سياسة «العصا الغليظة» مع من يربط رأسه على فكرة أو رأى مخالف لهم، وسياسة «التليين بالمال والكلام» مع مَن يعيش رأسه على «ترس» يدور مع المصلحة حيث تدور.
لم يكن «الحسين» يملك أدوات القوة أو الحيلة أو أساليب المماراة والمداراة التى يجيدها بنو أمية، لكنه كان يملك حلماً بدولة أكثر عدلاً ورحمة، دولة تتمثل القيم النبوية التى تربَّى عليها فى حِجر جده محمد صلى الله عليه وسلم، واجتهد فى تمثُّلها خلفاؤه الراشدون، كان يحلم بالدولة «الديانة» كما كان يصف رضى الله عنه. لم يدرك «الحسين» وهو يتحدث بحلمه أن الدنيا من حوله قد تغيّرت وأن الناس قد تبدلت، وأصبحوا أكثر التصاقاً بالدنيا وأطايبها، وأشد إيماناً بفكرة الدولة القوية التى دار حولها مُلك بنى أمية بعد سنين طويلة عاشوها فى حرب وكرب، وجرح وقتل، فى الأحداث الدامية التى اقترنت بالصراع على الحكم بعد اغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه، أصبحوا يؤثرون السلامة والعافية على القتل والقتال، ولم يكن لأحدهم وقتها أن يقف ويتحدث عن الاستبداد، لأنه كان من طبائع الأشياء!.
لم يخطئ من حذر الحسين من خذلان الناس له حينذاك، وقال له «هؤلاء قوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك»، لكن إيمان سبط النبى بحلم «الدولة الديانة» كان أقوى من أى تحذير، لذا فقد ثار فى طريقه مدفوعاً بوجدانه المشتعل بالإيمان. كل الحسابات السياسية كانت تقول إن «الحسين» ذاهب إلى حتفه، لكنه لم يلتفت ولم يفكر فى الكيفية التى سيواجه بها عناصر القوة التى يمتلكها بنو أمية. فعندما يسيطر الحلم على المرء يغلب ما عداه ويتعطل العقل عن الدخول فى حسابات من الوارد أن تقعده عن المسير والمصير الذى اختطته له الأقدار.
فى اللحظة التى وصل فيها الحسين إلى كربلاء كان الجميع قد انفض من حوله، ولم يبقَ له من نصير سوى صبية أهل البيت ونساؤه وبناته. وكما كان «الحسين» عازفاً عن حسابات الدنيا، كان خصمه على النقيض غارقاً فيها دون أى اعتبارات قيمية. كان «يزيد بن معاوية» يعلم وهو يحكم المسلمين من دمشق أن استمرار الحسين سيظل شوكة فى جنبه، وأن عليه ألا يفلت اللحظة التى واتته فيتخلص منه حتى يصفو له الملك ولا ينازعه فيه أحد. وقف «الحسين» وحيداً على باب خيمته قبل استشهاده بلحظات ينظر إلى العالم من حوله ويقول: «الناس عبيد الدنيا.. والدين لعق على ألسنتهم.. يدارونه ما دارت معيشتهم.. فإذا ما محصوا بالبلاء قلّ الديانون». وكانت اللحظة التى سبق فيها السيف العذل!.