بقلم: صالح القلاب
إذا صَحَّ أنّ الرئيس محمود عباس قد أصدر توجيهاً أو «قراراً» بعد زيارته الأخيرة لإحدى الدول الخليجية بوقف أي هجومٍ إعلامي على الدول العربية «المُطبّعة»، والحقيقة أنّ مثل هذا التوجيه أو هذا القرار كان قد صدر مبكراً قبل عودة السفيرين الفلسطينيين إلى أبوظبي والمنامة؛ مما يعني أنه قد استجدّت معطيات إيجابية بعد «الخطوة التطبيعية» المغربية وبعد اتصال العاهل المغربي الملك محمد السادس بالرئيس الفلسطيني، والتأكيد على أنَّ موقف المملكة المغربية من قضية فلسطين لن يتغير، وأنَّ الرباط ستبقى مع حقِّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني وقيام دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وهذا يعني أنّ أبو مازن، الذي هو الأكثر معرفة بالأشقاء المغاربة، قد تعزّزت لديه القناعة بأنّ العاهل المغربي إذا قال فعل، وأنَّ الإسرائيليين بدورهم يعرفون من خلال الجالية اليهودية المغربية أنَّ قضية فلسطين بالنسبة لهذا البلد العربي قضية مقدسة، وأنه إذا بقي بنيامين نتنياهو يناور ويداور وإذا لم تلتزم إسرائيل القرارات الدولية بالنسبة لهذه القضية العادلة فإنّها ستواجه موقفاً دولياً حازماً ستشارك فيه حتى الولايات المتحدة ما دام القرار قد أصبح في يد الديمقراطي جو بايدن.
ولذلك؛ وإذا صحّ هذا كله، وهو صحيحٌ بالتأكيد، فإنّ المؤكد أنّ أبو مازن سيوقف عمليات التراشق الإعلامي مع الدول العربية «المطبّعة»، وحقيقة أنه قد أوقفها بالفعل ليكون التركيز على ما أبلغه به العاهل المغربي وأيده الأردن ووافقت عليه مصر أيضاً مما تطلب اتخاذ هذا القرار الذي صدر عن القيادة الفلسطينية بوقف التراشق الإعلامي مع العرب الذين اعترفوا بإسرائيل وأقاموا كل أشكال العلاقات معها.
والمفترض طالما أنّ توجهات «الحل السلمي» بين الفلسطينيين والإسرائيليين باتت جديّة، وعلى أساس ما لمْ يطبق من اتفاقيات أوسلو التي كانت قد أبرمت في الثالث عشر من سبتمبر (أيلول) عام 1993 والتي يبدو أنها قد أصبحت بحكم الملغاة بعد الثلاثين سنة الماضية، وبخاصة بعد مقتل إسحق رابين واغتيال (أبو عمار) لاحقاً في الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2004.
والمؤكد أنه لا رجوع إلّا إذا لمْ يطبق من هذه الاتفاقية، أي اتفاقية أوسلو، ما دام أنه قد أصبحت هناك دولة فلسطينية على أساس هذه الاتفاقية التي كان قد حضر التوقيع عليها في واشنطن الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون وأبو عمار، والتي كان قد صادق عليها وزير الخارجية الأميركي وعضو الفيدرالية الروسية؛ ولذلك وما دام أنه قد تكون هناك عودة إلى بعض بنودها، فإنه لا بد من التأكيد على أنها قد نصّت على ما يلي:
1 - تنبذ منظمة التحرير الفلسطينية الإرهاب والعنف، أي تتخلّى عن المقاومة المسلّحة ضد إسرائيل وتحذف البنود التي تتعلّق بها في ميثاقها: العمل المسلح وتدمير الدولة الإسرائيلية.
2 - تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها الممثّل الشرعي للشعب الفلسطيني.
3 - وتعترف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل على 78 في المائة من أراضي فلسطين، أي فلسطين كلها ما عدا الضفة الغربية وغزة.
4 - خلال خمس سنوات تنسحب إسرائيل من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة على مراحل أولها أريحا وغزة، والمعروف أنها قد انسحبت منهما فعلاً.
5 - تُقرُّ إسرائيل بحق الفلسطينيين في إقامة حكم ذاتي، أصبح يعرف بأنه السلطة الوطنية الفلسطينية، التي من المفترض أنْ تعترف إسرائيل بها كدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967.
وهكذا، فإنّ ما يؤكد أنّ غالبية ما جرى الاتفاق عليه في أوسلو وجرى التوقيع عليه رسمياً في واشنطن في عام 1993 قد تم تنفيذه وأصبح هناك المجلس التشريعي المنتخب وتم إنشاء قوات شرطة من أجل حفظ الأمن في الأراضي الفلسطينية، وهنا فإن المفترض لو لم يَتنصّل الإسرائيليون مما تم التوقيع عليه في العاصمة الأميركية أنْ تكون مفاوضات الوضع النهائي قد انتهت وتم التوصل إلى الحل المنشود وعلى أساس دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967 وحل قضية اللاجئين على أساس حق العودة والتعويض وحلِّ مشكلة مستوطنات الضفة الغربية ما دام أنها قد حلُّت وانتهت في قطاع غزة.
والمشكلة أنّ «حماس» وكالعادة ومعها بعض التنظيمات الأخرى مثل «الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية»، وأيضاً وبعض الفصائل «الاسمية» مثل: «الصاعقة» و«جماعة أحمد جبريل» (السورية)، وأيضاً ربما «جبهة التحرير العربية» سوف ترفض أي اتفاقٍ كنتيجة لأي مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية مقبلة تعترف بإسرائيل، والمعروف أنّ «حركة المقاومة الإسلامية» كانت قد وصفت اتفاق أوسلو بأنه «مشؤوم» وباطلٌ؛ لأنه أعطى الاحتلال الحق في اغتصاب 78 في المائة من أراضي فلسطين التاريخية وقالت إن ما بُني على الباطل فهو باطل، وإنّ شعبنا الفلسطيني لن يلتزم بما التزمت به «المنظمة»، وإنه لن يعترف بأي نتائج تنتقص ولو ذرة تراب واحدة من فلسطين ومقدساتها.
والمعروف أنّ «حماس» حركة «إخوانية»، وأنها تتبع للتنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» الذي بعد إخراج قيادته من مصر قد التحق بعض أعضائها بالمقر «الإخواني» الدائم في بريطانيا، وذلك في حين أنّ حركة المقاومة الإسلامية التي تسيطر على قطاع غزة قد التحقت هي بدورها بالتحالف: «التركي - الإيراني»، وهكذا فإنها لا يمكن أن تلتحق لا بمنظمة التحرير ولا بالسلطة الوطنية ولا بدولة فلسطين المنشودة، ومعها بالطبع كل التنظيمات الآنفة الذكر: «الجبهة الشعبية» و«حركة الجهاد الإسلامي» و«الصاعقة» و«جماعة أحمد جبريل»، وأيضاً ربما «جبهة التحرير العربية» و«الجبهة الديمقراطية» التي أمينها العام نايف حواتمة... دائم التنقل بين دمشق وعمان.
في كل الأحوال، إنّ المؤكد أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، ومعه بالطبع حركة «فتح» والسلطة الوطنية وكل الفاعليات والرموز الوطنية في الضفة الغربية، لن يُضيّع هذه الفرصة التاريخية، وأنه وبالتأكيد سيذهب إلى المفاوضات المقبلة مع الإسرائيليين وعلى أساس أنْ يكون الهدف إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ويبقى هنا أنَّ الخوف كل الخوف أنّ بنيامين نتنياهو إذا بقي رئيساً للوزراء في إسرائيل فإنه ومعه مجموعة المتطرفين الإسرائيليين سيصرُّ على أن يكون الحل المنشود على «أساس السلام مقابل السلام»، وهذا لا يمكن أنْ يكون مقبولاً وعلى الإطلاق، لا من قبل القيادة الفلسطينية ولا من قبل الشعب الفلسطيني، وحتى ولا من كل العرب والدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وهنا ومع الأخذ بعين الاعتبار أنّ إسرائيل باتت مقسومة إلى معسكرين... معسكرٍ معتدل يريد حلاً مقبولاً من الشعب الفلسطيني بعد أكثر من سبعين عاماً من الصراع والحروب الدامية، ومعسكرٍ متطرفٍ متمسّكٍ بأنْ يكون الحل المنشود «سلاماً مقابل السلام» وفقط، وبالطبع فإنّ هذا مرفوضٌ من الفلسطينيين وقيادتهم، وإنّ الرد سيكون العودة للصراع المسلح وإلى عنفٍ أكثر كثيراً من عنف المرحلة الماضية؛ إذ عندما تصل الأمور إلى هذا الحد فإنّه لا بدَّ من الأخذ بما يتمسك به الأكثر تشدداً من الفلسطينيين والتنظيمات الفلسطينية، ففلسطين هذه نفسها كانت قد مرت عليها احتلالات كثيرة أكثر سوءاً من هذا الاحتلال الإسرائيلي مما يعني أنه على الولايات المتحدة، وبخاصة بعد انتقال النظام من الجمهوريين إلى الديمقراطيين، ومعها الدول الكبرى كلها وأيضاً العالم بأسره، أنْ تتحمل مسؤوليتها التاريخية، وإلا فإنّ العودة لأكثر العنف شراسة سيكون الخيار الذي لا غيره خيار!