بقلم: صالح القلاب
حتى قبل هجمة «طباخ بوتين الملياردير» التبشيعيّة والتشنيعيّة على الرئيس السوري، التي يقول البعض إنّ وراءها الرئيس الروسي نفسه، وهذه مسألة بنظري واضحة وصحيحة، ولا شك لديّ إطلاقاً فيها، كانت مياه موسكو ودمشق صافية، وأصبحت عكرة، وكان قد سبقت هذه «الهجمة» مؤشرات كثيرة على ارتجاج العلاقات السورية - الروسية، من بينها على سبيل المثال لا الحصر أنّ بشار الأسد «تجاهل» طلباً روسياً بتوقيع اتفاق جديد بين البلدين، على اعتبار أنّ اتفاق 2015 بات مستهلكاً وقديماً، وأنّ هناك تطورات «إقليمية» تقتضي تجديده.
والمعروف أنّ بشار الأسد، حتى مع الوجود الإيراني المكثف، العسكري و«الميليشياوي» ووجود «حزب الله» اللبناني بكل ثقله في سوريا منذ البدايات المبكرة لانفجار الأوضاع ببلده، مع بدايات «الربيع العربي» عام 2011، قد شعر أنّ نهاية نظامه باتت قريبة، وأنه لا بد من الاستنجاد بالرئيس فلاديمير بوتين، على اعتبار أنّ روسيا، وخاصة في عهد الاتحاد السوفياتي عندما كان في ذروة تألقه وقوته، الداعم الرئيسي لسوريا.
وحقيقة أنّ مناشدات بشار الأسد للرئيس الروسي في البدايات كانت بمثابة استجداء، فالرئيس بوتين، الذي لا هو ستالين ولا خروتشوف، وحيث أيضاً أنّ روسيا ليست الاتحاد السوفياتي، كان بحاجة إلى «جسّ نبض» كثير من الدول، التي كانت قد سبقت بلاده إلى التدخل المبكر في الصراع السوري الذي بات يأخذ أبعاداً خطيرة، وبالطبع أولها إسرائيل التي واصلت احتلالها لهضبة الجولان السورية منذ عام 1967 ذات الموقع الاستراتيجي المهم جداً المطل على دمشق من الناحية الغربية، والذي إذا أردنا أخذ العِبر من تجارب سنوات طويلة باتت تتحكم عسكرياً في هذا البلد العربي كله، بدءاً بحوران والسويداء وحمص، وصولاً إلى مناطق شرق نهر الفرات كلها، والمعروف أنّ الإسرائيليين ما زالوا يحتلون «جبل الشيخ» الذي يصفه العسكريون الاستراتيجيون بأنه يشكل نقطة مراقبة يصل مداها إلى ما بعد الحدود العراقية في الشرق، وإلى ما بعد الحدود الأردنية في الجنوب، وإلى فلسطين المحتلة كلها من الشمال للجنوب، وإلى عمق البحر الأبيض المتوسط.
ولعلّ ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن روسيا، حتى في عهد «القياصرة» وبالطبع في عهد لينين وستالين وكل من تناوبوا على حكم الاتحاد السوفياتي، كانت دائماً وأبداً تتطلّع و«بشرهٍ» كما يقال، إلى أن يكون لها موطئ قدم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الذي يشكل صلة وصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا والذي كان على مدى حقب التاريخ البعيد والقريب طريق الغرب الأوروبي البحري إلى الشرق، وطريق الشرق للغرب، الذي من المعروف أنّ جيوش «الإمبراطورية العثمانية» قد توغلت فيه واحتلت كثيراً من دوله القريبة والبعيدة.
في كل الأحوال؛ يمكن القول إن سوريا بعد انهيار «الإمبراطورية العثمانية» وبعد تقسيم العالم العربي وتمزيقه قد وقعت أولاً، بعد تقاسم غنائم الحرب العالمية الأولى، في قبضة الفرنسيين الذين فعلوا فيها ما بقوا يفعلونه بالجزائر قبل استقلالها، وأيضاً في كثير من الدول العربية الأفريقية، ثم باتت محطّ أطماع وريث الدولة العثمانية مصطفى كمال أتاتورك الذي انتزع لواء الإسكندرون، جوهرة البحر الأبيض المتوسط، من سوريا عام 1939 بمؤامرة تاريخية تنازل فيها الفرنسيون الذين «لا يملكون» إلى تركيا «التي لا تستحق»، وحقيقة أنّ أسوأ ما سجّله التاريخ على الرئيس السوري حافظ الأسد أنه تنازل عن هذا الجزء من «القطر العربي السوري» للأتراك عام 1998 لحلّ مشكلة مع تركيا سببها دعم سوريا المستمر لحزب العمال الكردستاني التركي بقيادة عبد الله أوجلان الذي هو الآن نزيل أحد السجون التركية.
وإن ما أجّج الصراع في هذه المنطقة بحجة وقف المد الشيوعي هو أن الولايات المتحدة قد شكلّت حلف بغداد الشهير وذلك من دون أن تشارك فيه مباشرة، والذي تكوّن من العراق وتركيا وبريطانيا وإيران وباكستان فيما قابله حلف آخر بقيادة الاتحاد السوفياتي وكانت سوريا في تلك الفترة قد تعرضت لضغط هائل من حلف بغداد هذا ودوله وبخاصة تركيا، ما دفع وزير الدفاع السوري في ذلك الحين خالد العظم لتوقيع اتفاقية تعاون عسكري واقتصادي مع موسكو عام 1957 وتم لاحقاً تعيين الجنرال عفيف البزري (اليساري) وزيراً للدفاع.
وهكذا، فقد دخلت سوريا مساراً جديداً وأصبحت جزءاً من دولة جديدة بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، لكن هذه الوحدة ما لبثت أن انفرط عقدها في 28 سبتمبر (أيلول) عام 1961 بانقلاب عسكري، نتج عنه ما سمي «نظام الانفصال» الذي هو في الحقيقة قامت به القيادة العليا للضباط السوريين للتخلص من الرئيس المصري والتخلص من الوحدة مع مصر وتمهيداً، وهذا غير مؤكد، لانقلاب حزب البعث الأول عام 1961 في سوريا، حيث تبعه انقلاب حزب البعث في العراق الذي لم يصمد طويلاً، لكنه ما لبث أن قام بانقلاب عسكري ثانٍ في عام 1969. وهكذا بقي يحكم في بلاد الرافدين إلى حين إسقاط نظام صدام عام 2003 حيث تم إعدامه بعد محاكمة «شكلية» و«استعراضية» استمرت نحو 3 أعوام.
إن المقصود بهذا الاستعراض كله هو أنّ حزب البعث بعد انقلاب حافظ الأسد، الذي أعطي اسم «الحركة التصحيحية»، كان مجرد واجهة لنظام عسكري فردي انتقل من الأب إلى الابن عام 2000. وهنا، فإنّ ما عليه إجماعٌ هو أنّ سنوات ما بعد العام 2000 كانت سنوات صراعات داخلية وسنوات ضياع سياسي، اختفى حزب البعث خلالها من الناحية العملية نهائياً، واختفى من كانوا يُعتبرون رموزاً بمرحلة الأسد الأب، مثل مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وغيرهما، وهكذا فإنّ الابن الذي خلف أباه في رئاسة الدولة وفي كل شيء قد أعلن عما سماه «سوريا المفيدة» التي كان وصفها كبار المسؤولين السابقين بأنها «سوريا الطائفة العلوية»، الأمر الذي جعل هناك احتمالات معززة بالأدلة والبراهين على أن سوريا مقبلة فعلاً على صراعات كثيرة، وأنّ الروس عندما استهدفوا الرئيس السوري وعلى ذلك النحو القاسي جداً فإنهم على أغلب الظن كانوا وما زالوا يسعون لنظام بديل مقبول من غالبية السوريين، وليس من طائفة واحدة!!
المهم بعد كل هذا الاستعراض أنّ الواضح بل المؤكد أنّ الروس الذين يعتبرون أنّ وجودهم في سوريا دائم ومستمر، حيث أصبحت لهم 3 قواعد عسكرية في هذا البلد الاستراتيجي؛ الأولى هي قاعدة «حميميم» الجوية، والثانية هي القاعدة البحرية إلى الشمال، من مدينة اللاذقية، ثم هناك قاعدة ثالثة في منطقة القامشلي، ما يعني أنّ موسكو تريد نظاماً في هذا البلد مستقراً يمثل الشعب السوري بكل مكوناته الطائفية والقومية، وبديلاً لهذا النظام المهترئ فعلاً، حتى إنه لا يمثل الطائفة «العلوية» كلها، التي كان حافظ الأسد قد تخلّص من كل المعارضين له من رموزها الأساسيين، ومن بينهم صلاح جديد الذي كان دوره رئيسياً في انقلاب 8 مارس (آذار) عام 1963 وانقلاب ما سمي «الحركة التصحيحية» في 23 فبراير (شباط) عام 1966.
هذا بالنسبة لنظام بشار الأسد الذي قد «يصمد» رغم كل هذه العواصف التي تهب لبعض الوقت، وليس كل الوقت. أمّا بالنسبة للإيرانيين فإنّ الروس يعرفون أكثر من غيرهم أنه من غير الممكن أن يبقى تغلغلهم في هذه المنطقة على ما هو عليه الآن.