بقلم: صالح القلاب
بالتأكيد إنّه مقصودٌ ومتعمدٌ أنْ تخاطب القيادة الروسية بشار الأسد بهذا الأسلوب الجافّ والقاسي والاتهامي، بلسان طباخ الكرملين «الملياردير» يفغيني بريغوجين، ووصفه بـ«الضعيف»، وعدم قدرته على محاربة الفساد المستشري في إدارته، واستغلال المساعدات الروسية لأغراض شخصية، وقد بررت وكالة الأنباء «الفيدرالية» الروسية هجومها على الرئيس السوري بحجة فضح فساده، وحقيقة أنّ هذا ليس جديداً، فالمعروف أنّ ما يرتكب من موبقات وانحرافات اقتصادية بهذا البلد لا مثيل له في أي بلد في الكرة الأرضية.
واللافت أنّ الرئيس بوتين تقصّد تكليف «طباخه» الملياردير!! بهذه المهمة إمعاناً بمزيد من إهانة الأسد، الذي كان يجب أنْ يخاطبه زعيم الكرملين شخصياً وألا يترك الأمر لرجل مهمته «الطبخ».
ولعلّ ما تجدر الإشارة إليه أنه صدرت عن الرئيس الروسي وعن «الكرملين» تحديداً، 3 تقارير اتهامية؛ أولها بـ«توقيع» شخص اسمه ميخائيل تسيبلاييف، وصف فيه الوضع الاقتصادي في سوريا بالسلبي للغاية، وأشار إلى أنّ عدم توفر الظروف للشراكة بين موسكو ودمشق يعود لارتفاع مستوى الفساد في «المستويات السياسية العليا» في هذا البلد!!
وجاء في هذا التقرير أيضاً أنّ ما يحدث في سوريا يعود للفساد بالحكومة، وأنّ بشار الأسد يسيطر على الوضع على نحوٍ ضعيف، وأنّ السلطة في هذا البلد تابعة بـ«الكامل» لجهاز بيروقراطي، وتم الاستشهاد بتصريحات «حصرية» لنائب رئيس الوزراء السوري السابق، قدري جميل، قال فيها: «إن مستوى الفساد في (سوريا) كبير للغاية، وإنه يعيق بالفعل تنمية البلاد، وإنه قبل الأزمة كانت نسبة (الفساد)، مقارنة بالدخل القومي للناتج المحلي الإجمالي، تصل لنحو 30 في المائة، وإنّ أعداد أصحاب المليارات ارتفع عما كان قبل عام 2011 إلى عدة عشرات حالياً».
أمّا التقرير الثاني فجاء فيه أنّ هناك حاجة لإصلاحات اقتصادية، ولمحاربة الفساد، وخاصة على المستوى الحكومي، وأن هذا إحدى أكبر المشكلات بالنسبة لروسيا... نحن نستثمر مبالغ كبيرة من المال في الاقتصاد السوري، لكنّنا لا نشهد نتائج... يبدو أنّ الاستثمارات التي توظفها روسيا في سوريا تذهب إلى «جيب شخص واحد»، وبالطبع من الواضح أنّ المقصود هو بشار الأسد نفسه!!
هنا، وبعد استعراض هذه التقارير الروسية الثلاثة، لا بدّ من التأكيد أنّ هذا كله هو محصلة مسيرة طويلة، كانت بدأت في القاهرة، عندما تشكلت لجنة عسكرية سرية من 5 أعضاء، جميعهم من الطائفة العلوية، وجميعهم ينتمون لحزب البعث، وكان على رأسهم صلاح جديد، بينما أقلهم رتبة كان حافظ الأسد، الذي بقي يتدرّج في المواقع العسكرية إلى أنْ قام بانقلابه على رفاقه عام 1970؛ نور الدين الأتاسي، وصلاح جديد، ويوسف زعين... وغيرهم، ووضعهم في سجن المزة الشهير لسنوات طويلة... وبعضهم مات فيه.
وهكذا؛ بقي الأسد يحكم سوريا بالحديد والنار إلى أنْ توفي بعد مرض عضال عام 2000، وكانت قد ارتُكبت في عهده مجازر دموية، من بينها مجزرة جسر الشغور وحي المشارقة وسجن تدمر ومجزرة حماة وحلب، بالإضافة إلى احتلال لبنان، والمهم أنّه كان يعدُّ ابنه الأكبر باسل ليكون خلفاً له، بينما شقيقه رفعت كان يعدّ نفسه ليكون هو البديل، والمعروف أنّ باسل هذا توفي بحادث سيارة، وأثيرت حوله تساؤلات كثيرة، فحلّ محلّه شقيقه بشار، الذي ما كان والده قد أعدّه لهذه المهمة ولم يكن هو يتوقع أنْ يصبح رئيساً لدولة تعاني من تهديدات كثيرة.
إنّ هدف كل هذا الاستعراض هو أنّ بشار الأسد لم يكن يتوقع أنّه سيكون رئيساً لبلد شديد التعقيد، وهو الوحيد من بين الدول العربية كلها الذي شهد نحو 20 انقلاباً عسكرياً، وحقيقة أنّ هذا كله قد جعل الذين أحاطوا به يحوّلون نظامه إلى نظام طائفي، وصل الفساد فيه أكثر مما هو عليه الآن، ما أدى إلى تصفيات حوّلت هذا البلد إلى كهف وحوش متناحرة، وجعل كثيرين من رموزه يغادرونه هرباً ويلجأون إلى دول أوروبية متعددة، من بينهم 3 من رجالات الأسد الأب، أي رفعت الأسد، ومصطفى طلاس، وعبد الحليم خدام الذي توفي قبل أيام.
والمعروف أنّ حافظ الأسد، قد أرسل جيشه إلى لبنان في عام 1976 لطرد الجيش الإسرائيلي، لكنّ أولى «غزواته» كانت اجتياح مخيم تل الزعتر الفلسطيني، واستيعاب التنظيمات الفلسطينية، وهكذا بقي إلى ما بعد مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005. وحقيقة أنّ سنوات احتلاله لهذا البلد التي اقتربت من 30 عاماً كانت سنوات «فساد» وسلب ونهب وتصفيات سياسية واعتقالات واغتيالات لمعارضي النظام السوري، ومن بينهم كمال جنبلاط وسمير قصير وجبران تويني وغيرهم، بالإضافة إلى الحريري.
وعليه، فإنّ الاحتلال السوري للبنان، الذي استمر لنحو 30 عاماً، قد شكل مرحلة «فساد» وإفساد لا مثيل لها، وحقيقة أنّ هذا كان امتداداً لما كانت عليه سوريا نفسها، إنْ في عهد حافظ الأسد، وإنْ في عهد نجله بشار الأسد.
وهنا؛ وخلافاً لكل ما يقال على لسان «طباخ» فلاديمير بوتين، أو على ألسنة غيره، فإنّه يتردد أن هناك من الروس من هم متورّطون أيضاً في هذا «الفساد» الذي بقيت تعاني منه سوريا على مدى سنوات طويلة.
لا يمكن إنكار أنّ سوريا التي يسيطر عليها بشار الأسد، إنْ فعلياً، وإن شكلياً، كانت غارقة في فساد قديم ومزمن حتى عنقها، لكن الفساد المفزع فعلاً هو أنّ نحو 8 ملايين سوري أصبحوا لاجئين مشردين في دول كثيرة، والمعروف أنّ أسوأ «فساد» وأخطره هو تهجير كل هذه الأعداد من السوريين خارج وطنهم، وتطبيق بشار الأسد ذلك الشعار، الذي قال فيه إنه يريد «سوريا المفيدة»، أي أنه يريد سوريا الطائفية.
وعليه، وبصراحة؛ فإنَّ دخول الروس على الأزمة السورية التي كانت متفاقمة، والتي ازدادت تفاقماً، قد عزّز «الفساد» الذي بقي «مستشرياً» في هذا البلد المنكوب، والذي غدا مقسماً ومحطماً بالفعل، فما كان على الرئيس بوتين ألا ينتدب «طباخه الملياردير» ليوجه كل هذه التهم القاسية إلى الرئيس بشار الأسد، بل إنه يقول كل ما يعرفه عن هذا النظام، الذي كانت بداياته فاسدة، وازداد «فساداً» في عهد هذا الابن، وعلى مدى كل هذه السنوات الطويلة منذ عام 2005 حتى الآن!