بقلم: صالح القلاب
عندما تكون هناك عشر عواصم عربية مشتبكة مع نفسها وكل واحدة محسوبة على أكثر من جهة أو قوة إقليمية والحبلُ على الجرار، كما يقال، فإن هذا يعني أن الخروج من تحت العمامة العثمانية وبعد ذلك من تحت الخوذة الاستعمارية كان «عشوائياً» ولم يكن بدوافع استقلالية فعلية وإن معظم الدول المعنية لا تزال منهكة بتناحرات طائفية ومذهبية وعشائرية وعرقية وجهوية وإن كل هذا، عندما جاءت لحظة دفع الاستحقاقات، قد أدى إلى كل هذه الانفجارات الحالية وإلى كل هذه الحروب المدمرة الدامية وكل هذه «الاهتزازات» التدميرية!!
كان الأساس أن دافع الخروج من تحت العمامة العثمانية، بعد أربعة قرون وأكثر من الذل والهوان والاستعباد هو التحرر القومي وأن يستعيد العرب كيانهم، الذي أصيب بداء التشرذم والانقسام، بعدما كانوا «أمة واحدة» وهذا إن في عهد «الخلافة» العظيمة وإن في العهدين الأموي والعباسي لكن ما حصل هو أن المستعمرين هم من ورث العثمانيين وأقاموا دولاً ودويلات مصطنعة ها هي قد أصيبت بالأمراض الطائفية والمذهبية فأصبحت هناك كل هذه الحروب المأساوية التي دأبت على تغذيتها بعض الدول الإقليمية التي لا تزال ترى أن من حقها استعادة «أملاكها» الضائعة!!
والمعروف أنه كانت هناك مرحلة ما سُمي: «المد القومي» التي كانت بلغت ذروتها، شعبياً وسياسياً، في أربعينات وخمسينات وأيضاً ستينات القرن الماضي لكن ما أطفأ وميض تلك المرحلة هو أن هذه المنطقة قد ابتليت بظاهرة الانقلابات العسكرية التي كانت قد رفعت شعارات «الوجدان العربي» لكن من قاموا بها ما لبثوا أن انقلبوا على هذه الشعارات وأحلوا محلها السجون والمعتقلات، وهكذا فإن كل هذه الأنظمة الانقلابية قد أنتجت رموزاً استبدادية لا تزال بقاياها تفعل كل هذا الذي تفعله في العديد من «الأقطار العربية»!!
والمهم فإن ما يجري الآن في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن وفي ليبيا وأيضاً في الصومال والسودان، وهذا بالإضافة إلى بعض الدول الأخرى، هو إنتاج مراحل الصراخ الثوري بلا أي إنجازات فعلية وحقيقية، وكانت الطامة الكبرى أن «الوريث» الذي رافق المد الأميركي في هذه المنطقة كان المذهبية «المتكئة» على دوافع فارسية وصفوية قديمة قد خرجت من تحت عمامة الخميني بعد ثورة فبراير (شباط) عام 1979 وكانت أيضاً هي «الأوهام العثمانية» التي تسلح بها رجب طيب إردوغان وذهب بها كتمدد عسكري إلى بعض دول الخليج العربي وإلى «جماهيرية القذافي» السابقة، أي ليبيا السنوسية مما يعني أننا كعرب بانتظار استحقاقات مكلفة كثيرة، والمؤكد أنها ستكون قريبة وأقرب إلينا من حبل الوريد!!
وهنا فإنه لا بد من التكرار والقول إن هذا الزحف الذي تدفق على هذه المنطقة الشرق أوسطية واجتاز بغداد الرشيد ووصل إلى ثلاث عواصم عربية أخرى هي دمشق وبيروت وصنعاء عنوانه مذهبي وطائفي في حين أنه فارسي - صفوي وهذه مسألة يجب أن يفهمها الذين يواجهون أشقاءهم في بلاد الرافدين بالسيوف الإيرانية التي يعتبرونها زوراً وبهتاناً على أنها كلها «ذو الفقار» سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه!!
إن المفترض أن كل الذين يدَّعون أنهم يثأرون لدماء «الحسين بن علي بن أبي طالب» يعرفون أن دافع قاسم سليماني ودافع من تباهى بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية هو ليس الثأر لـ«الحسين» حسيننا وإنما لِمُلْكٍ فارسي مضاع وللدولة التي زرعها إسماعيل الصفوي في بلاد الرافدين ولـ«إيوان كسرى» الذي حوله أبطال الأمة العربية ذات يوم أصبح بُعيداً «إصطبلاً لخيولهم»!!
في فبراير عام 1979 كان ياسر عرفات (أبو عمار) أول الواصلين إلى طهران، بعد أيام قليلة من انتصار الثورة الخمينية، وحقيقة أنه كان يحمل رسالة عربية باسم معظم العرب بأن هذه «الثورة» قد فتحت صفحة جديدة في «سفر» العلاقات العربية - الإيرانية وأنه منذ الآن فصاعداً لا للمناكفات ولا للحروب، لكن خيبة الأمل كانت شديدة عندما كان رد الخميني، على طلب للقائد الفلسطيني بإعادة الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى إلى أهلها، هو أن هذه الجزر إيرانية، وأنها ستبقى إيرانية إلى الأبد!!
ربما أن البعض يعتبر أن الاستشهاد بالعدو غير جائز، لكن ما العمل إذا كان هذا الذي قاله رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي هو الحقيقة، وحيث إنه قد قال في تصريح يوم الأربعاء قبل الماضي: «إن إيران اليوم هي العدو لكنها تعمل ضد دول الخليج العربي وغيرها من الدول العربية أكثر مما تعمل ضد إسرائيل»... إن هذه هي الحقيقة وإنَّ هذا هو واقع الحال وللأسف، وحيث إن المؤكد أن تحويل ضاحية بيروت الجنوبية إلى مستعمرة إيرانية مسلحة هو ليس ضد الدولة الإسرائيلية وإنما لإخضاع باقي المكونات اللبنانية إلى «الأجندة» الإيرانية.
في كل يوم تقريباً تقصف إسرائيل بصواريخها وبطائراتها الحربية العديد من المناطق السورية وتقصف أيضاً القوات الإيرانية الموجودة في هذه المناطق لكن من دون أي ردٍّ لا سوري ولا إيراني، ثم وإن المعروف أيضاً أن الإسرائيليين قد بادروا إلى ضم هضبة الجولان المحتلة وأنه لم يصدر عن الجنرال «الطرزاني» قاسم سليماني، المنشغل بضاحية بيروت الجنوبية وبالبصرة وبغداد والنجف، ولو مجرد ردّ فعل صوتي خافت ومن قبيل رفع العتب!!
إننا كعرب قد أصبحنا أمام هذا الواقع المؤلم، فـ«الخليفة العثماني» رجب طيب إردوغان الذي كان قد قال بملء شدقيه إن من حقه أن يذهب - ودون أي استئذان - إلى أي عاصمة عربية طالما أنها كانت من الأملاك العثمانية وطالما أنه هو وريث العثمانيين في هذه المرحلة وفي المنطقة كلها!!
إن ما جعل رجب طيب إردوغان يتمدد عسكرياً وسياسياً إلى ليبيا ويبرم تحالفاً مع فائز السراج هو الدوافع «العثمانية»، وكل هذا ومع العلم أن علاقاته بإسرائيل، العدو الصهيوني، «سمناً على عسل» وأن الطائرات الإسرائيلية تخترق يومياً المجال الجوي التركي دون اعتراضها حتى ولو بمجرد قذيفة إنذارية دخانية.
ولذلك فإنه لا بد من التأكيد في النهاية على أن العرب كلهم ومن دون استثناء باتوا يواجهون في هذه المرحلة الخطيرة بالفعل أطماعاً فارسية باتت تتجسد حقائق على الأرض، وهذا إنْ في العراق وإنْ في سوريا ولبنان واليمن، وأيضاً أطماعاً «عثمانية» جديدة قد عبرت مياه البحر الأبيض المتوسط ووصلت إلى ليبيا، وهكذا فإن الأيام المقبلة ستحمل مفاجآت كثيرة وأنه على الدول العربية كلها أن تعيد النظر بكل حساباتها الإقليمية وأن تأخذ بعين الاعتبار أن هناك نهوضاً حقيقياً لـ«فارس» القديمة وإن رجب طيب إردوغان بات يتصرف تجاه هذه المنطقة على أنه وريث «الخلافة العثمانية»!!
وعليه فإن مصيبة المصائب هي أن الوضع العربي قد بات «مهزوزاً» وأنَّ هناك عرباً، قد تخلوا عن عروبتهم وأصبحوا رقماً هامشياًّ في المعادلة التركية - العثمانية وأيضاً في المعادلة الفارسية، ويقيناً أنه إذا استمرت الأمور على هذا النحو فإنه غير مستبعدٍ أن يصبح العالم العربي - إنْ ليس كله فبعضه - على ما كانت عليه الأمور في العهدين؛ العهد الصفوي والعهد العثماني... وهكذا فإن الحقيقة، وهي حقيقة شديدة المرارة، هي أن أوضاع الدول العربية بمعظمها باتت مهزوزة وأن من بينها دولاً أصبحت كسيحة وعاجزة، وإلى حد أنها أصبحت تحكم بلا حكومات، مما يعني أنه إن لم تكن هناك عملية إنقاذ عاجلة فإن هذا القرن الجديد سيكون أسوأ فترة في تاريخ هذه الأمة!!