بقلم - طارق عباس
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر زعيم ملهم، لم يعش فى الأرض بقدر ما عاش فى القلوب ولم يحلم لنفسه مثلما حلم للناس، أصاب وأخطأ لكنه لم يخن، هزم وانهزم ولم يستسلم، ناصر الفقراء بحفاظه على حقوقهم والتحيز لهم، اعتبره ديفد بن جريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، أخطر على الصهاينة من عدويهم التاريخيين «فرعون وهتلر»، وعند رحيله قال فيه شامتا: «لقد خضنا الحروب من أجل التخلص من عبد الناصر حتى أتى الموت وخلصنا منه». وصفه يوثنت سكرتير الأمم المتحدة بأنه واحد من أبرز الشخصيات المرموقة فى الشرق الأوسط والعالم وزعيم بحق للمصريين. وقال عنه رئيس الوزراء السوفيتى أليكس كوسوجين إن جمال عبد الناصر كان وسيبقى للأبد فى ذاكرة الناس مناضلا لا يلين فى الكفاح عن الكرامة الوطنية والعزة لشعبه. قيل الكثير مما لا تتسع له مئات المجلدات وكان أحق بما كتب وأكثر، وفى عجالة سأمر سريعا على صفحة مهمة من تاريخ عبد الناصر لا يزيد مداها الزمنى على سنتين تقريبا إلا أن ما اتخذه خلالها من قرارات يشهد بأن مطالب الثورة لا تؤجل وأن الزعيم الجاد لا يقبل الوصايا على قراراته ولا يرتضى بالهيمنة مهما كان الثمن.
فمثلا، بعد أن تعرضت غزة لغارة إسرائيلية فى فبراير عام 1955 يتوجه عبد الناصر إلى الولايات المتحدة وبريطانيا بطلبات متكررة للحصول منهما على السلاح، وأثناء لقائه بجون فستر دلاس وزير الخارجية الأمريكى أظهر الأخير استعداد الولايات المتحدة لتقديم السلاح لمصر لكن بشروط منها: الدفع بالعملة الصعبة وعدم استخدام السلاح ضد إسرائيل والقبول برقابة لجنة أمريكية للتفتيش حول استخدامات السلاح، فى الوقت الذى كان يتدفق فيه إلى إسرائيل شتى أنواع الأسلحة ومن كل البلدان الأوروبية دون قيود أو شروط، الأمر الذى دفع بعبد الناصر للتوجه للكتلة الشرقية وطلب السلاح من الاتحاد السوفيتى.
بعد أن فشل الأمريكيون والبريطانيون فى الضغط على مصر من خلال ورقة التسليح لإجبارها على القبول بالصلح مع إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية، لجأوا لاستخدام ورقة الحصار الاقتصادى خاصة فى مسألة تمويل مشروع السد العالى والذى كان يراه عبد الناصر شريان حياة للأراضى الزراعية وزيادة المساحة المنزرعة والقضاء على الجفاف والفيضانات المدمرة وتوليد طاقة كهربائية هائلة، وكانت قد أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولى الاستعداد لتمويل المشروع بحيث تدفع الأولى 14 مليون دولار والثانية 56 مليون دولار والثالث قرضا بقيمة 200 مليون دولار، وبعث دلاس إلى عبد الناصر برسالة قال فيها: الروس يعطونكم السلاح للموت، أما نحن فسنبنى لكم السد العالى من أجل الحياة، وبعد أيام يصل إلى مصر وزير الخزانة الأمريكى وبالتحديد فى 8 ديسمبر 1955 حاملا مشروعا بعقد صفقة سلاح تربط بين تمويل السد واتفاقية للصلح بين مصر وإسرائيل، ويرفض ناصر المشروع ويؤكد لأندرسون أن مصر لا تقبل بالتمويل مقابل التنازل عن سيادتها أو الرهان على انحيازاتها وأنها لن تتنازل عن مطلبين رئيسيين هما: وطن للشعب الفلسطينى على أرضه طبقا لخطوط التقسيم عام 1947 وأن تكون النقب لفلسطين مع ربط مصر بالأردن عن طريق برى.
مع استمرار عبد الناصر فى تحديه للغرب وإسهامه فى تأسيس حركة عدم الانحياز وإيعازه للملك حسين بطرد جلوب باشا رئيس الفيلق الأردنى من الأردن باعتباره عميلا لقوى الشيطان «بريطانيا»، وتبنى الاتحاد السوفيتى تمويل مشروع السد العالى بإقراض مصر 200 مليون دولار تقوم بسدادها على مدى 30 سنة بفائدة 2% فقط، وبعد أن نشرت وكالات الأنباء فى 7 يوليو 1956 أن الاعتماد المقرر للسد العالى فى الولايات المتحدة قد سقط ضمن ما سقط من مشروعات القوانين والاعتمادات المالية ثم إعلان بريطانيا والبنك الدولى سحب التمويل، فما كان من عبد الناصر إلا أن أعلن قرار تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية فى 26 يوليو عام 1956 لتعود القناة مصرية خالصة ولو لم يفعل عبد الناصر غير هذا الإنجاز لاستحق به أن يكون أهم زعماء مصر والعالم.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع