بقلم: طارق عباس
على مدى السبعين سنة المنصرمة ونحن نسمع ونقرأ عن إصلاح مئات آلاف الأفدنة، وتطوير شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحى وأساليب الرى، وكذلك عمل كبارى ورصف طرق وخطوط مواصلات ومصانع ومتاجر وشركات وتخطيط وبناء مدن ومجتمعات عمرانية جديدة.. على مدى سبعين سنة، تأتى وتذهب وزارات وتصدر قرارات، وتُقام مؤسسات، وتنتعش وتخفت أصوات وشخصيات.لكن وبالرغم من كل التقلبات والتغيرات والمحاولات المستميتة لتحريك المياه الراكدة لا يتغير شىء فى الواقع المصرى، وتتعاظم المشكلات والتحديات والأزمات، ويتسلط الجهل والفقر والمرض على عموم الناس.
والسبب بمنتهى الصراحة هو أن محاولات الإصلاح المشار إليها غير مبنية على أسس وقواعد ثابتة، ومتعلقة دومًا بما يحيط بالإنسان لا بالإنسان نفسه، متعلقة بما يُمنح إياه أو يُقَدم له، لا بما يجب أن يعطيه ويقدمه هو، متعلقة بالإطار الخارجى للصورة لا بأصلها وجوهرها، والأهم من ذلك كله أنها متعلقة ومرتبطة بالسلطة الموجودة.. وعندما تكون الإنجازات محمية بالسلطة، فسوف تزول حتما بمجرد زوالها، وستصبح خططها ومخططاتها فى خبر كان.
أما إذا أردنا نفع الناس بالإنجازات والمشروعات العظيمة، فيجب أن يكونوا هم حماتها والمدافعين عنها، وذلك من خلال إنعاش وتنمية ورعاية الثقافة.. ثم الثقافة.. ثم الثقافة، باعتبارها همزة الوصل مع التراث، وصمام أمن الواقع، ومفتاح بوابة المستقبل، باعتبارها المصباح الذى يضىء الطريق أمام كل
من يكرهون الظلام.
فالثقافة ضرورة وليست ترفًا، هى دين ووجدان ولسان الشعوب، هى التجسيد الحى لإبداع الذات وتفجير الطاقات، هى الوسيلة المُثلى لتجاوز الصعوبات وتحقيق الأحلام والطموحات، هى كل ما يبقى للإنسان إذا تاه عن نفسه أو نسى ما تعلمه.
من المستحيل أن ينجح الأفراد أو تنجح المجتمعات ما لم تتزود بسلاح الثقافة، فغيابها تغييبٌ للوعى وتدميرُ كافة محاولات التنمية، إذ كيف يمكن الحفاظ على نظافة الشارع دون تنظيف العقل وتطهير الوجدان والارتقاء بالسلوك؟ كيف يمكن حماية حرية الرأى والتعبير فى مجتمعات لا تتلقى تعليما صحيحا ولا تقرأ ولا تحاور ولا تناقش ولا تستثمر الوقت فيما ينفع؟ كيف يُبنى السلام فى المجتمع الذى يعيش مثقفوه فى جزر منعزلة دون جبهة حراك تجمعهم ولا جبهة أفكار ورؤى تحمى وجهات نظرهم عند الضرورة؟.
فى أوائل القرن العشرين، ظهرت بوادر التنوير بكل ما تحمله من آثار إيجابية لإعادة رسم وجه مصر، بعد أن ضخ المثقفون فى شرايين هذا البلد إشراقًا، أى إشراق، واختلافًا، ما كان ليفسد للود قضية.
وإذا بأستاذ الجيل «أحمد لطفى السيد» يدافع عن القومية المصرية فى مواجهة الجامعة الإسلامية، مؤكدا أن مصر للمصريين. وكان أحمد لطفى السيد أول من رفع شعار الديمقراطية فى العالم العربى، ووعّى الناس بضرورتها وأهميتها فى حياتهم، كما كان من أوائل من دعا لإنشاء الجامعة المصرية وأسس حزب الأمة - المنافس الأول للحزب الوطنى - سنة «1907»، بينما راح الزعيم مصطفى كامل يلهب مشاعر المصريين بخطبه الحماسية الرنانة المحرضة على مقاومة الاحتلال البريطانى.
هنا، وانطلاقًا من ثراء الأفكار وتنوعها تُبنى صلابة المواقف وتميز وجدة الأفكار، وتشتعل ثورة «1919» بقيادة سعد زغلول بتأييد ودعم وحب الشعب، وينطلق المصريون المردة من النجوع والقرى والمدن والمحافظات فى يوم «8 مارس 1919» ليهتفوا: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام، سعد سعد يحيا سعد، تحيا مصر حرة مستقلة، عاش الهلال مع الصليب» ويغنون: «بلادى بلادى.. لكِ حبى وفؤادى».
وللحديث بقية فى الأسبوع القادم.