بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي
«فظيعٌ جهلُ ما يجري... وأفظعُ منه أن تدري»، بهذا البيت الشعري للشاعر اليمني الراحل عبد الله البردوني، يمكن وصف التغييرات الدولية الكبرى والاستراتيجيات المتحولة في المنطقة والعالم، فالجاهل بهذه التحولات يتخبط والعارف بها يقلق.
تراجع الدور الأميركي دولياً لم يعد تحليلاً رؤيوياً ولا استشرافاً للمستقبل، بل بات أمراً واقعاً في أحداث مدوية، والتدخلات الروسية والتمدد الصيني تحدثان بالتوازي مع التراجع الأميركي، ومنطقة الشرق الأوسط في قلب هذه التحولات الدولية تتأثر بها وتؤثر فيها بنسب متفاوتة تأثراً وتأثيراً، ولكل ذلك تبعات مهمة على الدول، والشعوب، واقعاً، ومستقبلاً.
المشاريع الكبرى في المنطقة لم تتغير، وإن طرأت عليها تطورات وتغييرات مؤثرة، فالمشاريع الثلاثة هي المشروع الإيراني الطائفي، والمشروع التركي ومشروع الاستقرار والاعتدال العربي، فإيران اتجهت لتصعيد سياساتها العدائية في المنطقة، ضد العراق وأكراد العراق، وفي سوريا ولبنان واليمن، حيث تكثيف استهداف السعودية بالصواريخ الباليستية والمسيّرات، والمشروع الأصولي التركي ما زال قائماً، وإن بوتيرة أخف بعدما تعرض لهزائم موجعة، وبدأ التقارب مع مصر والإمارات، وإن لم ينسحب بعد ولم يتخل عن ليبيا ودوره فيها وفي شرق المتوسط.
والمشروع العربي ما زال مصراً على الاستقرار والاعتدال ونشر التسامح والتركيز على التنمية والمستقبل، فنجاحات السعودية ومصر والإمارات تملأ فضاء المنطقة بالأمل والإنجاز الحاضر والمستقبلي، والأرقام خير شاهدٍ.
في ظل تراجع الدور الأميركي وصعود إسرائيل كدولة متصدية للمشروع الإيراني، أصبح محور السلام أكثر قوة بانضمام دولتين خليجيتين له هما الإمارات، والبحرين، التي استقبلت وزير الخارجية الإسرائيلي قبل أيامٍ، وذلك بعد العلاقات الأطول مع دولة قطر من قبل.
من الطبيعي أن تسعى أميركا المتراجعة إلى عدم التفريط في حلفائها بشكل مستعجلٍ وصادمٍ، ومن هنا فوزير خارجيتها أنتوني بلينكن، يذهب إلى فرنسا بعد أزمة الغواصات الكبيرة، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، يقوم بجولة عربية شملت السعودية ومصر والإمارات، وبحثت في الملفات الساخنة في المنطقة والعالم، فأميركا تسعى لتهدئة المخاوف لدى الحلفاء وطمأنتهم بعد عددٍ من القرارات الكبرى المستعجلة ذات الدلالات غير الودية التي نتجت عنها.
بخلاف تركيا التي تعيد الكثير من حساباتها وعلاقاتها الدولية والإقليمية، فإن النظام الإيراني يرسل رسائل متعددة تؤكد الإصرار المستمر على فكرة «تصدير الثورة»، وبسط النفوذ، ونشر الهيمنة، في نظام كله صقور بمعنى التشدد السياسي والطائفي، وإظهار عدم الاكتراث بالمفاوضات النووية مع الرفض والعنت وعدم التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية، وانتهاكات سيادة العراق ولبنان وسوريا واليمن مستمرة، وتتعزز ويتحدث مسؤولو النظام عن جيوشٍ خارج إيران تم بناؤها لخدمة المشروع الإيراني، ومحاولات التمدد تتجه نحو باكستان وأفغانستان وأذربيجان.
كان اليسار العالمي داعماً رئيساً لثورة الخميني، وقد تغنى رموز اليسار في العالم بها، واندفعت أسماء كبيرة في ذلك الدعم، وهو اليسار نفسه الذي يصر على دعم جماعات الإسلام السياسي، ويحتفظ معها بعلاقاتٍ عميقة تاريخياً وتنظيمياً ومفاهيمياً، وهو يشهد انتعاشاً في أوروبا وأميركا عبر «اليسار الليبرالي» الذي باتت بعض أطروحاته وتوجهاته تهدد الحزب الديمقراطي بالانقسامات والانشقاقات، وهو قاد التساهل مع النظام الإيراني والاتفاق النووي المشؤوم، ودعم في الوقت ذاته كل الفوضى والاضطرابات الكبرى في عدد من الدول العربية إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي».
«ميليشيا الحوثي» التي يعلم العالم أجمع أنها لا تتحرك سياسياً وعسكرياً إلا بتوجيه ودعم مباشر من النظام الإيراني تحظى بمجاملة دائمة من أميركا والدول الغربية، ولا تمارس عليها أي ضغوطاتٍ دولية فعلية حتى وهي ترتكب أفظع الجرائم، وتصنف على أنها «جرائم الحرب»، وتختطف الدولة اليمنية وتقتل الشعب اليمني بالجوع والفقر والفساد وبالقوة العسكرية، وهو أمرٌ كان على طاولة البحث في لقاء ولي العهد السعودي مع مستشار الأمن القومي الأميركي.
باكستان أعلنت التفاوض والحوار حلاً في علاقتها مع حركة «طالبان باكستان» بعد سيطرة حركة «طالبان» على أفغانستان بالكامل، وانتعاش الأصوليات محورٌ سياسيٌ بالغ الأهمية والتأثير في الواقع والمستقبل القريب والبعيد، فالأصولية الهندية/ الباكستانية والأصولية الإيرانية والأصولية الإخوانية، هي أصولياتٌ متداخلة، وينتقل التأثير بينها فكرياً وسياسياً في مساحة تمتد من الهند وباكستان شرقاً وصولاً، إلى المغرب العربي غرباً مروراً بالعديد من الدول الإسلامية كتركيا ودول جنوب شرقي آسيا، فضلاً عن الامتدادات التنظيمية دولياً وفي الغرب تحديداً، ومن هنا فرفض أخذ هذا العامل المهم بالاعتبار، أو التقليل من شأنه، هو موقفٌ يعبر عن فقرٍ في الرؤية السياسية والوعي بالواقع والتغيرات والتحولات الدولية التي تجري على قدمٍ وساقٍ.
واحدة من أخطر المقولات التي تروج لها جماعة «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي والمتحالفون معها من اليسار واليسار الليبرالي هي أن «الأصولية» انتهت، وجماعات الإسلام السياسي قضي عليها قضاءً مبرماً، وبالتالي يجب عدم الانشغال بها ولا الانتباه لمكائدها وتطور أساليبها واستراتيجياتها، بينما تعج وسائل الإعلام بأخبار وتطورات هذه الجماعات وتأثيراتها.
الخبر الأهم الذي تم تداوله الأسبوع الماضي في هذا السياق، هو ما تم الإعلان عنه في مصر من إحباط مخططٍ كاملٍ لإعادة إحياء جماعة «الإخوان»، ورصد ملايين الدولارات وشبكة معقدة من «التنظيم» و«التمويل»، والتواصل المستمر بين العمل داخل مصر مع «التنظيم الدولي» للجماعة، وبتأثير بعض قيادات الجماعة القابعين في السجون المصرية، هذا مع كل الضغوط التي تتعرض لها الجماعة ويقظة الدولة المصرية وشعبها تجاه شرور هذه الجماعة الذي يعرفونه جيداً، فكيف بغيرها؟
في تونس تتحرك حركة «النهضة» الإخوانية، وتقوم بتقلباتٍ وتغيير جلدٍ وإظهار اختلافاتٍ ومهاجمة قياداتٍ مثل الغنوشي للإيحاء بأن شيئاً قد تغير في هذه الجماعة، والتاريخ والتجربة والواقع تؤكد أن هذا كله مجرد فرقعاتٍ إعلامية لا تعني أي تغير حقيقي، بل هو عملٌ براغماتيٌ للتعايش مع المتغيرات الداخلية التي يقودها الرئيس التونسي بدعمٍ شعبي واسعٍ حفاظاً على الجماعة ودورها وتأثيرها.
أخيراً، ففي فترات الاختلالات الدولية تصعد دول وأمم وشعوب ومنظمات وتنظيمات، وتهبط أخرى والحاكم في ذلك كله هو «المعرفة» و«الوعي» و«الرؤية» و«الغاية».