توقيت القاهرة المحلي 23:40:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تركيا والأكراد والحقد التاريخي

  مصر اليوم -

تركيا والأكراد والحقد التاريخي

بقلم: عبدالله بن بجاد العتيبي

الاندفاع الجنوني نحو العنف تجاه الأكراد من قبل الدولة التركية يثبت أن أحقاد التاريخ يمكن أن تؤثر في الواقع، حين تعجز الأنظمة السياسية عن إعادة تعريف هويتها الجامعة، في ظل تغيرات دولية كبرى.
لا يمكن فهم هذا العنف التركي المبالغ فيه تجاه أكراد سوريا، واندفاع تركيا لاحتلال أجزاء كبيرة من الدولة السورية، إلا باستحضار معضلة تركية قديمة، وهي الهلع التركي من التنوع العرقي أو الديني أو المذهبي للشعب التركي، والسعي التاريخي الدائم لجعل القومية التركية هي الحاكم المطلق الذي يشكل هوية الدولة التركية.
ما يقوله التاريخ هو أن الدولة التي تعتمد هويتها القومية على معاداة شريحة مهمة من شعبها ومواطنيها ستظل تعيش قلقاً مستمراً، واستقراراً مهدداً على الدوام؛ والقومية التركية التي تعد مرتكزاً أساسياً للدولة التركية الحديثة تعبر عن نفسها بشكل كبير عبر معاداة الأكراد، أو القومية الكردية. وهي لا تعترف أبداً بوجود غير المسلمين أو غير السنة من شعبها، مثل العلويين، وبالتالي بقيت هويتها القومية عنصر تفريقٍ لا عنصر جمعٍ وتوحيدٍ.
دفع هذا العداء المستحكم والحقد التاريخي التركي ضد الأكراد الجيش التركي إلى درجة استخدام الأسلحة المحرمة دولياً في مهاجمة الأكراد السوريين داخل حدود الدولة السورية، والسعي بالقوة العسكرية إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لمواطني شمال شرقي سوريا.
ما تخشاه تركيا حقيقة ليس الأكراد في العراق وسوريا، بل الأكراد داخل تركيا، إذ تعد أي صعودٍ لقوة الأكراد في البلدين تهديداً داخلياً لها، لأنه قد يوقظ الطموح الكردي داخل تركيا للمطالبة بحقوق مواطنة كاملة، وهي تعتقد أن هذا يشكل تهديداً للهوية القومية التركية.
وفي امتدادٍ للإمبراطورية العثمانية، لا يبدو أن الدولة التركية تمتلك قدرة على التعامل مع الاختلاف إلا بالعنف، والاستعداد الدائم لارتكاب المجازر والمذابح، فمن يستحضر تعامل العثمانيين ومذابحهم للأرمن ومذابحهم لليونانيين وغيرهم، ويقارن ذلك بتعامل الدولة التركية الحديثة مع أقلياتها، لا يكاد يجد فوارق تذكر.
الموقف من تنظيم «داعش» الإرهابي في سوريا والعراق يشكل أحد أكبر الفوارق بين موقف تركيا وموقف الأكراد؛ ففي حين اختارت تركيا إردوغان أن تتصالح مع «داعش»، وأن تبني علاقاتٍ واسعة مع مقاتليه اقتصادياً وسياسياً، اختار الأكراد محاربة التنظيم ومعاداته، وقد كان للأكراد دورٌ بارزٌ جداً في التحالف الدولي ضد «داعش»، وصولاً إلى دورهم في مقتل خليفة التنظيم المزعوم، أبي بكر البغدادي.
كان سقوط الخلافة العثمانية مدوياً في المنطقة والعالم، وحين سقط «الرجل المريض» ورثته بريطانيا وفرنسا في المنطقة، وتوالى استقلال الدول الحديثة عن الدولة العثمانية الباطشة الديكتاتورية، ودخولها في عصر الاستعمار الحديث، غير أن الأمة الكردية لم يكن لها نصيب في دولة مستقلة، وتوزعت بين كثير من الدول: العراق وسوريا عربياً، وإيران فارسياً، وتركيا تركياً؛ وهو ظلم تاريخي لم يجد فرصته للتعديل حتى اليوم.
ومع كل الإخلاص الذي أظهره الأكراد دائماً في تحالفهم مع الولايات المتحدة، فإنهم لم يحصدوا أي نتائج مرضية لهم منه. وما حدث مؤخراً من اضطراب في سياسات أميركا تجاههم يرسخ لديهم عدم الوثوق بأحدٍ في هذا العالم، سوى جبالهم التي لطالما حمتهم من المعتدين. فمرة تخلّي أميركا بينهم وبين تركيا، وتغض الطرف عن النية التركية لإظهار حقدها التاريخي بكل القوة الخشنة التي تملكها، ومرة تذكر بأنها لن تتخلى عن حلفائها الأكراد، وستعاقب تركيا إن ارتكبت المجازر في حقهم.
ويكاد يجتمع الفرقاء في متن المشهد السياسي التركي على أن القومية الكردية تهديدٌ كبيرٌ للدولة التركية والقومية التركية، والاختلاف بينهم في الدرجة لا في النوع. ويعاني الأكراد من كون معاداة الدولة التركية لهم أكثر من غيرهم من أقليات الهامش يدخل في تعريف الدولة التركية لنفسها وقوميتها وهويتها.
الرئيس التركي إردوغان، وهو ينتمي للإسلام السياسي طوال عمره، غيّر من مواقفه وقناعاته لخدمة طموحه السياسي وبراغماتيته العالية، وبينما كان يفترض به أن يدعم حقوق الأكراد بدافع الإسلام الجامع والانتماء للمذهب السنّي، فإنه تحالف مع القوميين الأتراك ضدهم، واستفاد من ذلك كثيراً في الداخل التركي، إلى أن وصل به الحال في هجومه على أكراد سوريا أن يستخدم الإسلام والقرآن لتشريع قتل الأكراد، وارتكاب المجازر ضدهم؛ وهذا مبدأ راسخ لدى كل جماعات ورموز الإسلام السياسي، وهو أن دين الإسلام مجرد وسيلة للاستحواذ على السلطة بأي طريقٍ وأي سبيلٍ.
تعاني السياسة التركية المعاصرة من تناقضاتٍ حادة جعلت حزب العدالة والتنمية يعاني كثيراً جرّاءها، داخلياً وخارجياً. فداخلياً، بدأت الانشقاقات تظهر في صفوف الحزب ورموزه، وبدأ الحزب يخسر في الانتخابات المهمة في أكبر المدن التركية، في إسطنبول وأنقرة، والعملة التركية تعاني من ضغط شديد يهزّ الاقتصاد التركي. وهي خارجياً لم تعد تعرف أين تتجه بوصلتها، فهي عضو في حلف الأطلسي وتطمح للانضمام للاتحاد الأوروبي من جهة، وتشتري صواريخ «إس 400» من روسيا وتسعى لتطوير العلاقات معها من جهة أخرى.
وفي المنطقة، خسرت تركيا كل تحالفاتها، ولم يبقَ لها إلا إيران وقطر، وهي تعلم جيداً أن المشروع الإيراني يناقض مشروعها التوسعي الخاص بها، ولكن لم تحن ساعة المواجهة بعد، وتعلم أن قطر مجرد تابعٍ صغيرٍ تستنزف موارده، وتبني قواعد عسكرية على أرضه، وتوبخ حكّامه متى ما أرادت، وهو ما جرى في زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة للدوحة، ولكنها عادت غالب الدول العربية الكبرى، فهي اختارت عداء مصر والسعودية والعراق وسوريا، وخسرت السودان، وفي طريقها لخسارة ليبيا، وباتت كثير من الدول العربية على وعي بالمطامع التركية في بلدانها، والمخاطر التي تشكلها على استقرار الدولة في العالم العربي.
لن تجد تركيا مخرجاً لنفسها ولمحيطها ما لم تكن قادرة على بناء هوية وطنية جامعة، تتخلى عن مخاوف التاريخ وإعاقاته، وتبني مستقبلاً واعداً لجميع مكونتها، وكلما تأخرت في ذلك وقعت في مزيدٍ من التناقضات ومزيدٍ من العنف غير المبرر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تركيا والأكراد والحقد التاريخي تركيا والأكراد والحقد التاريخي



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon