بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي
صراعات القوى الدولية تغير العالم وموازين القوى فيه باستمرار، وهذا من منطق التاريخ وطبيعة البشر، فلا شيء يبقى على حاله في الأمم والشعوب والمجتمعات ولا في الدول والمؤسسات الدولية، ورصد هذه التغيرات والتحولات الناتجة عنها مفيد لتشكل الوعي وبناء الرؤى واستشراف المستقبل.
يتحدث بعض المحللين والمفكرين من داخل أميركا وخارجها عن تراجع الدور الأميركي دولياً، وهو تراجع و«انسحاب» تمّ التنظير له من قبل تيار عريضٍ في الداخل الأميركي، وكان من أكثر المبشرين به والمنظرين له الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي بخلاف غيره من الرؤساء لم يكتف بتأليف كتابٍ واحدٍ عن سيرته، بل كتب، وما زال يعد بغيرها، والرئيس الحالي جو بايدن كان نائبه لفترتين رئاسيتين، وفهم طروحاتٍ تيارٍ بهذه القوة مهمة جليلة ونافعة.
هذا التراجع للدور الأميركي دولياً، وصعود قوى دولية جديدة تقف على رأسها الصين تراجع يمكن رصده بسهولةٍ، وتخلّي أميركا عن حلفائها حول العالم وقرارات إضعاف الحلفاء بمنع الأسلحة الاستراتيجية، وإضعاف بسط القوة وإعاقة الإصلاحات وممارسة الضغوط على الحلفاء، مع التساهل مع الخصوم في الوقت نفسه، كلها تشير لحقيقة هبوط تدريجي للدور الدولي والقوة الإمبراطورية.
لا يعني الحديث عن تراجع الدور الأميركي بأي حالٍ «نهاية التاريخ»، ولا أن أميركا ستصبح دولة ضعيفةً بين عشية وضحاها، هذا لا يتحدث عنه أحدٌ، ومما يمكن رصده بالتوازي مع هذا «عودة الأصولية» في العالم الإسلامي بدعم من اليسار الليبرالي الأميركي والغربي، حيث أصبحت أميركا والغرب ملجأ ومركزاً دولياً لكل الجماعات والرموز الأصولية، ومن هنا يتضح فارقٌ مهمٌ في تعامل الدول مع التحديات القائمة والمستقبلية، وهو أن الدول العربية والمسلمة معرضةٌ أكثر لمخاطر هذه الأصولية التي ستطال الغرب والعالم، ولكن لاحقاً، ومن العمى الاستراتيجي الاكتفاء بما ترصده المؤسسات السياسية والأمنية والأكاديمية والإعلامية الغربية على أنه هو الذي يجب أن يرتب أولويات دول المنطقة وطموحات شعوبها.
في مواجهة ظاهرة دوليةٍ بحجم ظاهرة الإرهاب فالفارق بين الدول الغربية والدول العربية واسعٌ بحكم طبيعة الخطر وعمق الفهم لهذه الظاهرة، التي تتقدم فيها الدول العربية على الغربية في حجم الخطر الأصولي وطبيعة الإدراك العميق له.
السعودية تعاملت بكل الجدية اللازمة في مواجهة ظاهرة الإرهاب، وعلمت هي والدول العربية القائدة والرائدة في مصر والإمارات عن طريق عمق المعرفة وسعة التجربة أنه لا يمكن القضاء على الإرهاب وتنظيماته من دون التعامل مع المنبع الرئيس له، وهو جماعات الإسلام السياسي، وتصريحات ولي العهد السعودي خير شاهد، وأكثر من هذا لقد قامت السعودية بتنظيم وإحكام السيطرة على «الأموال» والمؤسسات التي قد اخترقتها هذه الجماعات في السابق، وأصبح بعضها نموذجاً لما يمكن للمؤسسات أن تصنعه في مواجهة الإرهاب حين يتم إعادة بنائها بشكل صحيح وأولويات محكمة مع تنظيفها من عناصر «الإسلام السياسي».
تجدد الاتهامات للسعودية بأي مسؤولية عن جريمة الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية نهجٌ فشل سياسياً وافتضح أكاديمياً، واستجراره عند أدنى خلافٍ مع السعودية أصبح أقرب ما يكون إلى الدعابة السمجة ويمثل ابتزازاً رخيصاً غير لائق بالدول المحترمة فضلاً عن الكبرى في العالم.
في الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر ثمة فرقٌ ظاهرٌ بين من يعي الخطر الأصولي على حقيقته وعمقه كما تفعل السعودية ومن يتعامل مع ظواهره وأطرافه، فقط كما يجري في الدول الغربية لا عن جهلٍ، بل عن اختلافٍ في ترتيب الأولويات والمصالح، وسبق للدول الغربية أن وجدت مصالحها مرتبطةً بجماعات الإسلام السياسي مراراً عبر العقود الماضية، ومن أبرز شواهدها القريبة تاريخياً والحاضرة في الذهن تلك الأحداث المشؤومة فيما كان يعرف بـ«الربيع العربي» حيث كان يراد للجماعات الأصولية أن تحكم الدول العربية بشكل مباشر.
الخطر الأصولي الخطير ليس حكراً على دولةٍ بعينها وهو ذو منابع مختلفة ولكنه موحد الهدف والغاية، ولاستيعاب سعته وانتشاره يكفي معرفة أنه ينطلق من شبه القارة الهندية وأفغانستان شرقاً، إلى مصر وليبيا والمغرب العربي غرباً ومن ماليزيا جنوباً إلى تركيا شمالاً، وفي منتصف هذا الخطر كله تقع إيران ونظامها وأتباعها وميليشياتها، في العراق وسوريا كما في لبنان واليمن، والمودودي والخميني وحسن البنا وسيد قطب نماذج لما يمكن للأفكار والتنظيمات أن تصنعه وتغيره على مدى عقود من الزمن، فالخطر الأصولي ليس وهماً ولا مبالغةً والتقليل من شأنه لأي سببٍ، منذرٌ بازدياد الخطر.
على مدى عقودٍ من الزمن فشلت أكاديمياً وسياسياً كل المحاولات للتفريق بين جماعات الإسلام السياسي وجماعات الإرهاب، ولم يستطع أي طرحٍ علمي رصين أن يثبت أي تفريق متماسكٍ بينهما، ويمكن تذكر مقولات الرئيس المصري أنور السادات حينما كان يكرر ويؤكد أنه لا فرق بين «جماعة الإخوان» و«جماعات الإرهاب»، وأن «ولاية المرشد» لا تختلف عن «ولاية الفقيه».
لا أحد ينكر قوة أميركا وتأثيرها، ولكن السعودية والدول العربية ليست جمهوريات موزٍ بأي حالٍ من الأحوال، ومن أسباب ضعف الدول والإمبراطوريات ضعف الفهم الدقيق للواقع وتوازناته، وتباين الغايات وتغيير طبيعة ومتانة التحالفات، وكمثالٍ سريعٍ فهبوط قوة الاتحاد السوفياتي تم في سبعة عقودٍ وصولاً لتفككه، ولكن روسيا وريثته لم تزل إحدى أقوى دول العالم تأثيراً ونفوذاً حتى اليوم وفي المستقبل.
الغموض الذي يكتنف مستقبل توازنات القوى الدولية يتصاعد وتتصاعد معه الصراعات بين الدول على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والدول الحية تسعى جهدها لإدراكه وحماية مصالحها وتخفيف مخاطر تنتج عنه.
ترتكب الأخطاء حين تتم قراءة المشاهد المعقدة بشكل سطحيٍ، ومن ذلك أن يتم تصوير أن تركة الجماعات الأصولية في مصر، أو السودان أو تونس أو المغرب أو غيرها قد انتهت، فالجماعات الأصولية لا تنتهي بقرارٍ ولا تتلاشى بأمنياتٍ بل بالخطط الاستراتيجية الشاملة وطويلة المدى، وعند التدقيق فالأصولية ما زالت موجودة في كل الدول السابقة وتؤثر وتطوّر أساليبها.
أخيراً، فمراكز الثقل الأصولية في المنطقة مدعومة من مراكز ثقل أصولية موجودةٍ في عدد من الدول الغربية التي ما زالت هذه الجماعات تعمل فيها بأمانٍ وتنظيمٍ ودعمٍ.