توقيت القاهرة المحلي 08:02:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أميركا... دورة الجراح

  مصر اليوم -

أميركا دورة الجراح

بقلم : عبدالله بن بجاد العتيبي

الإمبراطوريات تجرح، وتموت، والإمبراطوريات تسقط وتتساقط، والإمبراطورية الأميركية الأقوى في التاريخ ليست استثناء، وقد جرحت من قبل وإن اختلفت ردودها على تلك الجراح، وكل ما تصنعه أميركا اليوم هو «الانسحاب» من العالم و«الانعزال» في الداخل.
جرحت أميركا في «بيرل هاربر» فكان الرد هو دخولها الحاسم في الحرب العالمية الثانية، وجرحت أميركا في «فيتنام» وكان الرد هو الانسحاب، وجرحت أميركا في 11 سبتمبر (أيلول) وكان الرد هو الحرب على الإرهاب، وتوقياً لمزيد من الجراح اعتقدت أميركا أن انسحابها من العالم سيحميها ومنطق التاريخ يقول عكس ذلك.
وجراحٌ أخرى، فعندما فجر عناصر «حزب الله» اللبناني مشاة البحرية الأميركية وسفارتها في بيروت 1983 قرر الرئيس ريغان سحب القوات، وعندما أسقط إرهابيو القاعدة في الصومال هيلوكوبتر «بلاك هوك» أميركية قرر الرئيس كلينتون سحب القوات، والأمثلة كثيرةٌ.
الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتسليمها لحركة طالبان سيتم تفسيره بالهزيمة، فـ«طالبان» و«القاعدة» و«داعش» تعلمت جيداً أن أميركا يمكن إنهاكها بالإصرار والعزيمة والثبات على الإرهاب، وهذا الشعور الطاغي على كل الحركات الأصولية والإرهابية الإسلاموية سيكون المحرك الكبير لجراحٍ سيشهدها العالم في السنوات المقبلة وستصل إلى أميركا للأسف.
لا يستبق هذا السياق الأحداث ولكن ثمة مناخ سياسي وأمني دولي يتم بناؤه اليوم سيكون تهيئةً لما سيجري مستقبلاً ويمنح «منطق التاريخ» كل ما يحتاج لإعادة دورة الجراح.
في حروبها الخارجية كانت أميركا تحرص دائماً على ربط حروبها بالأخلاق والمبادئ والمثل العليا، إنها تحارب من أجل «الحرية» ومن أجل «الديمقراطية» ولكن أحداً من رؤساء أميركا وأحزابها وتياراتها لا يمنح تفصيلاتٍ جديةٍ عن معنى «الحرية» أو «الديمقراطية» التي يحاربون من أجلها أو يريدون نشرها في العالم.
لم يناقش الرئيس جورج بوش الابن معنى «الديمقراطية» التي يبشر بها حين أعلن الحرب على الإرهاب، ولم يناقش الرئيس باراك أوباما معنى «الديمقراطية» التي يبشر بها حين وقف ضد الدول العربية وشعوبها وتحالف مع الجماعات الأصولية فيما كان يعرف بـ«الربيع العربي».
لا يجد صانع القرار ولا صانع الفكر الغربي والأميركي تحديداً حاجة لمناقشة أسئلة ملحةٍ فلسفياً وتاريخياً وسياسياً حول التبشير بالديمقراطية، فالحديث عن نموذجٍ جاهزٍ ومكتملٍ وبتعبير الجماعات الأصولية صالحٍ لكل زمانٍ ومكانٍ، إذن لماذا يبشرون بها دون رؤية مكتملة وأجوبةٍ حاسمةٍ؟
للجواب أبعادٌ شتى من أهمها أمران: الأول، كسب تأييد الناخب الأميركي بإيصال فكرةٍ بسيطةٍ، ولكن بالغة الأهمية له، بأن لدى الإمبراطورية الأميركية تفوقاً أخلاقياً ورسالة أخلاقيةً يريدون تمريرها للعالم ويتخذون قرارات السلم والحرب على أساسها. والثاني، ممارسة الضغوط الانتقائية على بعض الدول دون بعضها الآخر بحسب المصالح التي تحددها كل إدارة أميركية في زمنها.
لا يمكن تحت أي معيارٍ للعقل والمنطق ولا أي سببٍ من الأسباب مقارنة النظام الإيراني بالدول العربية على سبيل المثال، ومن هنا فإن رصد التناقض في السياسات الأميركية تجاه دول المنطقة لا تخطئه عين الباحث والفاحص، وشكليات «الديمقراطية» الثيوقراطية الإيرانية لا تصلح رماداً لذره في العيون حين يتم طرح المسألة بأبعادها المعرفية والعلمية.
«النظام الإيراني» يتجه بشكلٍ فاضحٍ نحو مزيدٍ من التشدد الصريح ويعيد إخراج رموز دموية معروفة بالإرهاب والديكتاتورية لتصدّر المشهد في قيادة النظام غير عابئ بكل الجهود التي تبذلها الإدارة الأميركية الحالية لاستعادة «الاتفاق النووي» المشؤوم والناقص لأنه بكل بساطة غير مضطرٍ لذلك، و«الدلال» الذي يجده يدفعه لمزيدٍ من التشدد لا التساهل، لمزيدٍ من الصرامة الآيديولوجية لا لمراجعة مبادئ «الثورة» ولا استراتيجيات دعم الميليشيات والإرهاب ولا سياسات بسط النفوذ والتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية التي شنها تنظيم «القاعدة» ضد أميركا انطلاقاً من أفغانستان ألقى الرئيس بوش الابن كلمة جاء فيها «لن نتعب، ولن نتعثر، ولن نفشل» ووصف حرب أميركا هناك بأنها «المهمة التي لا تنتهي». وختم بالقول: «لن أنسى هذا الجرح لبلادنا» وبعد عشرين عاماً لم تنس أميركا، ولكنها انسحبت بسرعةٍ مذهلةٍ وسمحت لحركة طالبان بالعودة بالسرعة نفسها وأصبحت المؤتمرات الصحافية الرسمية مجرد تهربٍ من الأسئلة المهمة.
كيف ستفسر حركة طالبان وتنظيمات الإرهاب الانسحاب الأميركي من أفغانستان؟ فطلاّب خطاب «المودودي» المؤدلجون المسيسون المقاتلون الأصوليون لا يعترفون بأنصاف الحلول ولا يؤمنون بالدبلوماسية ولا «الديمقراطية» ولكنهم ببساطة سيقولون إن أميركا هزمت وانسحبت تجر أذيال الخيبة، وسيمنحهم ذلك قوةً ودفعةً لإعادة التنظيم وإيواء الإرهاب ورعايته ما ستتضح آثاره في السنوات القادمة.
سبق أن حدث هذا، والرئيس بوش الابن في مذكراته «قرارات مصيرية» يقول: «كان واضحاً أن الإرهابيين فسّروا عدم ردّنا الجدّي باعتباره علامة ضعفٍ ودعوةً إلى مزيد من الهجمات الوقحة، رسائل القاعدة كثيراً ما ذكرت انسحاباتنا كدليلٍ على أن الأميركيين، على حد تعبير بن لادن، (نمورٌ من ورق) يمكن إرغامهم على (الهرب في أقل من 24 ساعة)».
كان واضحاً بعد نهاية حقبة بوش الابن أن هزيمة الإرهاب تقتضي هزيمة جذوره في جماعات الإسلام السياسي كجماعة الإخوان المسلمين، ولكن إدارة أوباما استثقلت المهمة وقررت أن تصنع العكس تماماً، وهو أن تتحالف مع هذه الجماعات وتسلمها السلطة والحكم في الدول العربية في حقبة «الربيع الأصولي» وأن توقع «الاتفاق النووي» مع النظام الإيراني وتصمت عن كل سياساته المعادية للعالم وليس لدول المنطقة فحسب.
الرؤية الأوبامية «الانسحابية» و«الانعزالية» والتنازل عن دور شرطي العالم خلقت فراغاتٍ جيوسياسية تمّت تعبئتها من الدول المنافسة كروسيا والصين والعودة لتلك الرؤية اليوم بعد مرحلة الرئيس ترمب تفتح الأبواب مشرعةً لزمن أصولي جديد في المنطقة والعالم لن تتأخر نتائجه وآثاره عن الظهور على المشهد الدولي.
أخيراً، فلولا أن الدول العربية القائدة والمعتدلة تصنّف جماعات الإسلام السياسي جماعاتٍ إرهابيةً لضجت المنابر وصدرت الفتاوى وحبّرت القصائد فيما قامت به أميركا وتمّ تجييش العواطف الدينية وحشد الأتباع وهو ما سيجري هذه المرة انطلاقاً من الدول الغربية ومن أفغانستان وإيران.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أميركا دورة الجراح أميركا دورة الجراح



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon