توقيت القاهرة المحلي 17:17:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

في السياسة... وبضدها تتبيّن الأشياء

  مصر اليوم -

في السياسة وبضدها تتبيّن الأشياء

بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

جدل السياسة يعلو على كثير من الجدالات بسبب قوة التأثير وسرعته وشمول السياسة لمجالات واسعةٍ في الحياة، فالفلسفة - مثلاً - أعلى كعباً من السياسة في الفكر، ولكنها إحدى أدوات السياسة، وأقل في العلم مثل الفلسفة، والعلاقات بين السياسة وغيرها من المجالات هي موضع عددٍ من العلوم الإنسانية، ويكفي استحضار الجدل الطويل في التاريخ والمستمر في الحاضر عن العلاقة بين الأخلاق والحروب لاستحضار حجم الفكرة واتساعها.

«تنظيم داعش» خلقته إيران من جهة وأميركا من جهة أخرى عبر تركيا، وجرى تسليمه أسلحة أميركية متطوّرةً في حادثة الموصل الشهيرة، وجرى إمداده بالأموال الطائلة عبر «الفدية» بعد اختطافه رهائن حتى يجري تبرير الدعم بمئات الملايين تحت بصر العالم وسمعه دون محاسبة، و«تنظيم داعش» نفسه أعلن مسؤوليته عن تفجيرين انتحاريين بـ«كرمان» الإيرانية في ذكرى مقتل «قاسم سليماني» أوديا بحياة ما يقارب 100 شخصٍ في عملٍ إرهابيٍ كبير.

في التاريخ كما في السياسة، وفي الفكر كما في المجتمعات توجد النقائض، وتتوالد الأضداد من بعضها، والنقائض في العلم تختلف عنها في الأدب، ومن هنا فرسم التصورات الصحيحة يحتاج لكثيرٍ من العلم والمنطق، والجهد والتحليل، لمعرفة النقائض، ورصد الأضداد، وقراءة العلائق التي تربطها، وتطبيق ذلك كله على الوقائع والأحداث.

علم المنطق هو أحد العلوم البشرية القديمة مع الحضارة اليونانية فما بعدها، وهو يعرّف بأنه العلم الذي يعصم الذهن عن الخطأ، ولذلك يسمى «الميزان» أو «معيار العلوم»، وسماه الفارابي «رئيس العلوم»، وفي هذا العلم شرح لمعنى «النقيض» و«الضد» والفرق بينهما، فالنقيضان مثل الوجود والعدم أو القعود وعدم القعود، لا يجتمعان ولا يرتفعان، أما الضدان فهما مثل الأبيض والأسود، فلا يجتمعان وقد يرتفعان.

بعيداً عن الإطالة، يشرح فكرة الأضداد قول الشاعر الشهير: «والضد يظهر حسنه الضد»، وقول المتنبي: «وبضدها تتبيّن الأشياء»، وفي السياسة من هذه الأضداد الكثير، إما بالتعامل معها وإما بخلقها، وقد تخلق الدول خصومها كما تخلق الفرق والطوائف أضدادها، وفي رواية الأديبة الإنجليزية ماري شيلي «فرنكنشتاين» التي باتت رمزاً لمن يخلق قاتله توضيح لهذه الفكرة.

الإرهاب الإسلامي في هذا السياق قصةٌ تستحق أن تروى، فهو في الأساس صناعة بريطانية، مع حسن البنا و«جماعة الإخوان المسلمين»، وشيء منها قبل ذلك في الهند، شاركتها في تلك الصناعة فرنسا مع «الخميني» وأميركا مع غالبية حركات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني تبعاً لهبوط الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وصعود الإمبراطورية الأميركية.

باختصارٍ، أرجو ألا يكون مخلاً، ففي الخمسينات ومع بداية رئاسة أيزنهاور أطلق مبادئ مهمة تقود «الحرب الباردة» المقبلة مع الاتحاد السوفياتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنها مبدأ «الإيمان والاعتقاد مقابل الإلحاد» ضمن حرب الأفكار الكبرى التي صبغت النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الجديد، وفي نهاية السبعينات انطلق «الجهاد ضد الإلحاد» من أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي، وقال بريجنسكي مستشار الرئيس الأميركي كارتر إن الوقت قد حان لنردّ للسوفيات «جميل فيتنام».

تَشَكَّلَ «الأفغان العرب» بين أفغانستان وباكستان ضمن هذا السياق، وأعادوا ترميم صفوفهم القديمة، وتشكلت تنظيمات جديدةٌ وقياداتٌ جديدةٌ، وبعد نهاية الحرب في أفغانستان وسقوط الاتحاد السوفياتي اتجهوا اتجاهين رئيسيين: الأول، اتجه لمواصلة محاربة «روسيا» في طاجيكستان وداغستان والشيشان، و«البوسنة والهرسك»، وفي موازين متذبذبة فيها، والثاني، اتجه للدول العربية وفق مبدأ «جهاد العدو القريب أولى من العدو البعيد»، وضمن الرؤية التي نظّر لها عضو جماعة الإخوان المسلمين العتيد وقائد الأفغان العرب عبد الله عزّام، الذي ينقل عنه أبو مصعب السوري منظر «السلفية الجهادية» أنه كان يقول: «أريد أن يأتي من كل بلدٍ عربي 40 مجاهداً يُقتل منهم 20، ويعود منهم 20 لنشر الجهاد في بلدانهم».

في التسعينات، وضمن هذا المبدأ الذي يمنح الأولوية لقتال «العدو القريب»، ويقصد به الأنظمة والشعوب العربية، وليس «العدو البعيد»، ويقصد به أميركا والغرب، فقد انتشر «الأفغان العرب» انتشار النار في الهشيم، فانتعشت في مصر «الجماعة الإسلامية» و«جماعة الجهاد»، وقامت في الجزائر جماعات إرهابية بعد سقوط عباسي مدني وعلي بلحاج، وقامت جماعات مثلها في بلدان مختلفةٍ في المنطقة، وشهدت السعودية انفجاراً للصحوة الإسلامية وصولاً لتفجير العليا 1995.

نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة اختل التوازن القائم لنصف قرنٍ، وبدأت ظاهرة «عولمة الجهاد»، وبدأ تنظيم «القاعدة» باستهداف الدول الغربية مباشرةً، ونقل بندقيته من الرعاية الغربية إلى الرعاية الإيرانية، وعاد يهاجم رعاته من الدول الغربية.

هنا يثار سؤالٌ مستحقٌّ، هل الإرهاب الإسلامي صناعة غربية؟ والجواب هو، لا ونعم، لا، بمعنى أن هذا الإرهاب في الأساس «عقيدة وإيمان» أي أنه معضلة فكرية وثقافية متراكمة عبر القرون، ونعم، بمعنى الإسهام الغربي في خلقه وتوفير البيئة والظروف والدعم اللامحدود، وهو ما تجلّى صراحةً في الدعم الأميركي 2011 لوصول جماعات الإسلام السياسي للحكم في عدد من الجمهوريات العربية إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي».

حتى لا نذهب بعيداً في التاريخ عن الواقع فلنأخذ عدداً من الأمثلة المعاصرة وإن بشيء من الإجمال، فـ«الإخوان المسلمون» دعمتهم بريطانيا، واستثمرت فيهم كثير من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا، والداعم الأكبر اليوم هي أميركا، و«الأفغان العرب» هم ظاهرة كبيرة بصناعة أميركية، و«الثورة الإسلامية» في إيران صناعة فرنسية في جزء كبيرٍ منها، وإسرائيل ونتنياهو شخصياً هو الذي سمح بانقلاب «بعض الفصائل» على السلطة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2007، وهو الذي سمح لها باستقبال الأموال عبر البنوك الإسرائيلية، ووقّع معها معاهداتٍ أمنيةً بعيداً عن «السلطة الفلسطينية» لتعميق الانقسام الفلسطيني، وانقلبت عليه.

أخيراً، فمثل هذه القراءة وهذا التوصيف مع التعمق والتدقيق واستحضار التاريخ الحديث والمعاصر، بأسماء الدول والجماعات والرموز، وبذكر نماذج للمبادئ الكبرى والمقولات المعروفة وربطها بالسياسات الدولية والإقليمية في مراحل مختلفة، تمنح القارئ قدرةً على التحليل الهادئ للمشاهد الساخنة، وربط السياسات التي تبدو متناقضة أو متضادة في سياقات يمنحها معنى يعين على الرؤية والفهم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في السياسة وبضدها تتبيّن الأشياء في السياسة وبضدها تتبيّن الأشياء



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon