بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي
كل شيء في العالم أصبح على المحك، كل دولةٍ وحكومةٍ، كل سياسةٍ وقرارٍ، كل اقتصاد واستثمار، كل ذلك جرى بعد الأزمة الروسية الأوكرانية والتصعيد غير المسبوق والمتتابع من أميركا والدول الغربية ضد روسيا. هذا التصعيد بات يهدد كل شيء في العالم، المنظمات الدولية والمفاهيم والمنتجات العالمية التي استقرت لعقودٍ لدى البشر، وهو تصعيد هدفه المستقبل ومنع روسيا من تكرار نفس الفعل مرةً أخرى، ولكنّه نتيجة الماضي، لا القديم منه إبان الحرب الباردة، بل القريب أيضاً نتيجة استهداف روسيا ومحاولات إضعافها وإخضاعها.
قرابين هذه الحرب الباردة الجديدة ليست في أوكرانيا فحسب، مع الاعتراف بأن المواطن الأوكراني البسيط صار ضحية لأطرافٍ متنازعة، دوليةٍ ومحليةٍ، فأميركا تريد هزيمة روسيا في أوكرانيا بأي ثمنٍ مهما كان غالياً، وتوريد الأسلحة النوعية وضخ المليارات وتصعيد العقوبات كلها تفاصيل لها أثرٌ مباشرٌ على المواطن الأوكراني، وتوحيد الجبهة الداخلية الأوكرانية من قبل تيارٍ سياسيٍ معيّنٍ يريد هو الآخر القضاء على خصومه الداخليين وخوض معركة الغرب ضد روسيا على حساب هذا المواطن المغلوب على أمره.
من هذه القرابين، الشعوب الأوروبية التي أصبحت على أبواب شتاء بلا طاقة، أو بطاقة باهضة الثمن وغير كافية، والتململ الأوروبي من قسوة الموقف الأميركي وتصلبّه بات واضحاً في مظاهراتٍ واحتجاجات شعبيةٍ وفي تصريحات سياسية من بعض الحكومات الأوروبية ومن صفوف المعارضة، وسيشهد هذا الشتاء تغيير حكوماتٍ واضطراباتٍ سياسية وشعبية غير مسبوقة.
تسييس كل شيء هو ضريبة هذا الاستقطاب الذي يراد فرضه على العالم مجدداً، ودون فهم هذا الاستقطاب الحاد والحماسة له لدى صانع القرار الأميركي لا يمكن فهم التشنج والتسييس الأميركي الفج لقرارٍ تجاري له حساباته وأسواقه ومجاله وصادر من منظمة كبرى وهو قرار «أوبك بلس» لخفض الإنتاج.
الامبراطوريات المستقرة والمتزنة لا تسمح للصراعات الداخلية أن تؤثر على مواقفها الدولية، وأميركا هي أقوى امبراطورية عرفها التاريخ، ولكن صراعها السياسي الداخلي محتدمٌ بشكل غير مسبوقٍ في تاريخها، وهذا الصراع الداخلي الساخن بات يؤثر على قراراتها وسياساتها الدولية، وفكرة تصدير المشكلات الداخلية للخارج ليست قصراً على الدول الضعيفة بل هي خيارٌ لكل تيارٍ أو حزبٍ أو شخصٍ يعمل في السياسة ويجد نفسه في لحظة تاريخية أمام أمرين: قناعة راسخة بالصواب المطلق سياسياً -وهذا متعذرٌ منطقياً في السياسة- ومع هذه القناعة طموح جامح لإثبات تلك الصوابية وهذا في مقابل شعبيةٍ تتناقص وتشكيك عامٍ في القدرات على الفهم والتصور والمواجهة.
الخشية في مثل هذه اللحظات التاريخية هي في إمكانية ارتكاب الحماقات، أو اتخاذ قراراتٍ أقلّ حكمةً واتباع سياساتٍ تفتقد للوعي والتوازن، فتحلّ اللغة الخشنة محلّ الديبلوماسية ويتم ارتجال المواقف والقرارات فيقع التناقض ويصبح صارخاً يراه العالم بأسره بوضوح ما عدا من يرتجل تلك المواقف والقرارات.
محاولة قراءة المشاهد الساخنة ببرودٍ واتزانٍ مهمةٌ صعبةٌ، ولكنها ضرورية، وليس من مقصود هذا السياق التقليل من قيمة أميركا بأي حالٍ من الأحوال، لا حضارياً ولا حتى سياسياً، وحضارتها وتاريخها ومجتمعها وواقعها أكبر بكثيرٍ من أن يشكك فيه أحدٌ أو تقلل من شأنه جهةٌ ما، وإنما الحديث عن واقعٍ معقدٍ وتوجهاتٍ حادةٍ وسياساتٍ خاطئةٍ تراكمت وتدفعها حدة الاستقطاب للإيغال أكثر فأكثر في الأخطاء.
أخيراً، فدول العالم ستحمي نفسها حين تنحرف بوصلة الدول العظمى، هكذا جرى في التاريخ ويجري في الواقع وسيجري في المستقبل، فالعالم دائماً يجد طريقه لتجاوز الانحرافات بغض النظر عن قوة وعظمة الدول التي تسعى لفرضها عليه.