توقيت القاهرة المحلي 04:47:11 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الربيع الإيراني والربيع العربي

  مصر اليوم -

الربيع الإيراني والربيع العربي

بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

المقارنات بين الأحداث والأفكار والسياسات تضفي أبعاداً مهمة للمشاهد المعقدة، وتمنح رؤية مختلفة للواقع والتاريخ وإمكانية لرصد الاتساقات والتناقضات بحسب كل جهة أو دولة أو تيار، وهي منهج فلسفي وعلمي للرصد والتحليل متبع في عدد من العلوم المهمة والحيوية، وسجل ويسجل نتائج واختراقات ذات أثر بيِّن.
فيما كان يُعرف بـ«الربيع العربي» خرجت مجموعات من الناشطين أو الساخطين في تونس ومصر وغيرهما بأعداد محدودة تم تضخيمها سياسياً وإعلامياً بشكل هائل، وفي مدينة واحدة قبل التوسع، وتصاعدت المطالبات سريعاً جداً من الإصلاح أو العدالة أو الحرية إلى «إسقاط النظام»، وقامت جماعات الإسلام السياسي بدورٍ محوري في المحافظة على الزخم الجماهيري وتوجيهه وإثارة الفوضى وارتكاب جرائم إرهابية لزيادة المشهد تعقيداً، وعملت هذه الجماعات في خلفية المشهد الصاخب الذي تركت واجهته للشباب الثائر والناشطين من كل شكل ولونٍ.
كان حدثاً يمكن أن يمر مثل ما سبقه من أحداثٍ تشبهه أو تزيد عليه، ولكن المفاجأة كانت في الدعم غير المسبوق في حجمه وكثافته وتركيزه من إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما والدول الأوروبية للمحتجين والمنتفضين والضغوط التي مارستها بكثافة وفاعلية ضد الأنظمة العربية، في الوقت الذي كانت فيه الإدارة نفسها تسعى لصياغة اتفاق واسع مع النظام الإيراني بعد إخماده للثورة الداخلية ضده فيما كان يعرف بـ«الحركة الخضراء» 2009.
هذا باختصار شديد أرجو ألا يكون مخلاً ما جرى قبل عقدٍ من الزمان تقريباً، وللمفارقة والمقارنة، فعكس ذلك يجري اليوم في إيران، حيث خرجت غالب فئات الشعب الإيراني - لا مجموعاتٌ من الناشطين فحسب - محتجة ومنتفضة، ولم يخرجوا في مساحة محدودة بمدينة واحدة، بل خرجوا على غالب مساحة الدولة الإيراني من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، وعبروا بكل السبل عن رفضهم للحكم «الثيوقراطي» الطائفي الديني الذي يمثل «الإسلام السياسي» بنسخته الشيعية، أو النظرية المستحدثة داخل المذهب الشيعي الكريم تحت اسم «ولاية الفقيه»، وهي محاولة لتسنين التشيع أو تحويله للمذهب السني في نظريات السلطة والحكم والإدارة العامة.
ما يستدعي الانتباه والرصد والمقارنة أن أميركا والدول الغربية التي يربطها مع النظام الإيراني «الاتفاق النووي» والذي تسعى جهدها لاستعادته وإحيائه فعلت عكس ما فعلته إبان الربيع العربي، فهي تحلت بالهدوء والصبر الاستراتيجي، ومنحت النظام كل الوقت لقمع الشعب الإيراني والقضاء على انتفاضاته واحتجاجاته، ولم يحدث أي تهويلٍ أو تضخيمٍ سياسي أو إعلاميٍ، ولكن النظام - مع ذلك كله - عجز عن صنع ما صنعه قبل أكثر من عشر سنواتٍ من قمع «الحركة الخضراء» وقياداتها والناشطين فيها، وبعد مرور أربعة أشهرٍ على هذه الانتفاضة الشعبية الإيرانية وتصعيد النظام لقمعها، بدأت هذه الدول تتخذ مواقف علنية ضد النظام تدعي دعم الشعب، ولكنها عند التدقيق لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي أقرب إلى الوعظ والأماني لا إلى السياسة والضغط على النظام ولا إلى الدعم الفاعل للشعب الإيراني.
هذه المواقف الغربية الجديدة في حجمها وصراحتها ليست مبنية على استراتيجية قوية ومواقف محكمة وحماسة ملتهبة، كما جرى من قبل في «الربيع العربي» حين كان «البيت الأبيض» يتحدث عن أن «الآن، تعني الأمس»، بل هذه المواقف الجديدة هي مجرد تعبير عما ينبغي وما لا ينبغي لتسجيلها في التاريخ لا للتأثير على الواقع، كما أنها لا تهدد بإجراءات عملية أو عقوباتٍ فاعلة، كما كان يطرح آنذاك ضد مصر وبعض الدول العربية التي شهدت احتجاجات وانتفاضات.
هذه المواقف الجديدة ليس تغييراً سياسياً ولا دعماً مؤثراً للشعب الإيراني، بل لها دوافع أخرى، أهمها دافعان: الأول، استيعابٌ للتغيير الكبير في موازين القوى في المنطقة والعالم بتوقيع السعودية لاتفاقية استراتيجية شاملة مع الصين ستغير كثيراً في تلك التوازنات الإقليمية والدولية، ومعها دول الخليج وغالب الدول العربية، وهو التقاء جديد وخريطة طريقٍ جديدة في بناء مستقبلٍ دولي مختلفٍ عن التوازنات القائمة منذ عقودٍ بعدما تم استنزافها والتلاعب بها واستغلالها للحد الأقصى والتناقض في توظيفها تجاه العديد من دول العالم، ولو كانت الدول الغربية تحتفظ بمعايير الجودة السابقة في إخراج مفكريها الاستراتيجيين العقلانيين والواقعيين لما اضطرت دول العالم للتفتيش عن طرقٍ جديدة وحلولٍ غير مسبوقة.
الثاني، هو الدعم الإيراني بالأسلحة والجنود لروسيا في الحرب الروسية الأوكرانية، والتي صعدت واشنطن والدول الغربية الموقف منها بشكل غير مسبوقٍ، حتى هددت كيانات ومؤسسات ومبادئ النظام الدولي المستقر منذ عقودٍ، وحتى أضرت بمصالح العديد من الدول الأوروبية، وقاربت جعلها ضحية ثانية لتلك الحرب بعد دولة أوكرانيا.
فرقٌ كبيرٌ بين السياسات والاستراتيجيات التي تبنى على فعلٍ ورؤية وتخطيط كما جرى في «الربيع العربي»، وبين السياسات التي تتخذ كردة فعلٍ كما يجري في «الربيع الإيراني»، وهي كذلك ليست ردة فعلٍ تنطلق من الاحتجاجات الإيرانية فحسب، بل هي مبنية على دوافع أخرى أكبر وأهم في التأثير على موازين القوى في العالم، ويكفي استذكار أن شعاراتٍ مثل «الحرية» و«الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» كانت تملأ الدنيا سياسياً وثقافياً وإعلامياً إبان «الربيع العربي»، وهي لا تكاد تذكر تجاه «الربيع الإيراني» إلا على طريقة «تحلة القسم» بالمنطق الديني أو رفع العتب بالمَعْنَيين الأخلاقي والسياسي.
بدأ النظام الإيراني بالتصعيد ضد المحتجين عبر المحاكمات السريعة وأحكام الإعدام ضد عشرات المواطنين، وبدأت بعض وسائل الإعلام تضج من هذا الانتهاك الصارخ، كأنه حدثٌ مستغرب أو خارجٌ عن السياق الطبيعي للنظام، والواقع أن هذا النظام وفقاً لآيديولوجيته الحاكمة وعقيدته النافذة لا يجد أي غضاضة في قتل نصف الشعب في سبيل إمضاء «حكم الله» بحسب نظريته الدينية والسياسية التي بناها وطبّقها على مدى أربعة عقودٍ متواصلة، فالمشكلة ليست في أحكامٍ محدودة صدرت في ظروفٍ معينة في نظام عادلٍ وديمقراطي ومستقرٍ لتكون مفاجئة، بل المشكلة هي في بنية النظام الإيراني التي تعتبر هذه الأحكام هامشاً صغيراً وغير عنيفٍ وليس دموياً مقارنة بمنهج النظام ورؤيته واستراتيجيته تجاه شعبه والعالم.
أخيراً، فالمقارنة بين «الربيع العربي» و«الربيع الإيراني»، وموقف الدول الغربية تجاه الحدثين تحسم الجدل تجاه العديد من الأفكار والقضايا التي كانت محل شكوك من قبل.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الربيع الإيراني والربيع العربي الربيع الإيراني والربيع العربي



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon