توقيت القاهرة المحلي 09:32:26 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إرث الإمبراطوريات لا يتلاشى

  مصر اليوم -

إرث الإمبراطوريات لا يتلاشى

بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

عرف التاريخ القديم والحديث ممالك كبرى وإمبراطوريات عظمى تجمع بين القوة والتوسع وفرض الهيمنة ويستحضر الناس الكثير من نماذجها المعروفة، أما ورثتها فهم لا ينسونها تمجداً وفخاراً، وأما خصومها فيستذكرونها بشيء من النقد العميق، وبقية الناس يفعلون ذلك للاتعاظ والاعتبار أو للدرس والفهم.

لا يوجد في التاريخ كله إمبراطورية قامت ولم تسقط، فهي جميعاً تقوم وتتصاعد قوة ونفوذاً ثم تضعف وتضمحل وتسقط أو تتساقط ثم تتلاشى، ولكن إرثها الإمبراطوري لا يتلاشى مثلها، بل يتحوّل إلى ملهمٍ دائمٍ وأوهامٍ متحكمة وربما خطيرة تتشكل في الوجدان الجمعي للأمم والشعوب التي تمثلها، وتتشكل تلك الأوهام والأحلام عبر قومياتٍ أو آيديولوجيات وخطاباتٍ يراد لها التماسك والتأثير وتبني جميعاً على منظوماتٍ من الأفكار والمفاهيم وربما الأحزاب والجماعات التي تبقيها حاضرة في الذهن تحوّلها إلى مشاريع وبرامج عملية، فمستقلٌ ومستكثرٌ.

تتوجه هذه الآيديولوجيات والمنظومات إلى خلق «نوستالجيا» متمكنة وجدانياً وثقافياً وسياسياً وتعتمد على خطابٍ هوياتي عميقٍ تتوارثه الأجيال لمواجهة التحديات وتستخدمه القيادات للتأثير في الحاضر والمستقبل.

عرفت العصور القديمة الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية وغيرهما الكثير، وشهدت العصور الوسيطة الإمبراطورية الإسلامية باسم «الخلافة» على اختلاف مراحلها، وعرفت العصور الحديثة الإمبراطوريات الروسية والبريطانية والفرنسية، وأميركا لدى عدد من المؤرخين تعد الإمبراطورية الأقوى في التاريخ.

الإمبراطورية الروسية القيصرية سقطت، ولكن إرثها الإمبراطوري استمر في ثنايا «الشيوعية» في إمبراطورية «الاتحاد السوفياتي» ثم عاد صريحاً مع الدولة الروسية المعاصرة وخطابها القومي والوعي الذي يعبّر عنه الرئيس بوتين في كلماته المطوّلة التي يتناول فيها التاريخ بتفصيل.

الإمبراطورية الفارسية انتهت قديماً، ولكن إرثها يتناقل في إيران، في الدولة الصفوية والقاجارية والبهلوية وتجلى بقوة بعد «الثورة الإسلامية». والإمبراطورية العثمانية سقطت على يد كمال أتاتورك في تركيا، ولكن إرثها تجلى في خطابات وأحزاب عند نجم الدين أربكان وتلاميذه وأفصحت عن نفسها مع إردوغان، وإرث هاتين الإمبراطوريتين يعني القارئ العربي كثيراً لأنها تعمل في منطقتنا وتتقاطع سياساتها وطموحاتها واستراتيجياتها مع دولنا وشعوبنا.

هذا السياق دعوة للتأمل والتفكير وليس له غرض في أي أحكام معيارية أو أخلاقية، بل هو قراءة في الخلفيات العميقة للواقع المعيش سياسياً واجتماعياً وثقافياً بما يمنح المتابع للأحدث والصراعات الإقليمية والدولية رؤية أفضل للدوافع والمؤثرات التي لا تظهرها الأرقام ولا الإحصاءات، ولكنها تكمن خلف ذلك كله، وتأثيرها أقدم وأعمق.

الإمبراطورية الإسلامية عبّرت عنها قرونٌ من «الخلافة الإسلامية» الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية، وهي إمبراطورية كبرى وقد سقطت جميعها على مراحل تاريخية متفاوتة، ولكن إرثها الإمبراطوري ما زال موجوداً، وقد تحوّل لأوهامٍ في تصوّر التاريخ وسلسلة من الأوهام لاستعادته، وتجلت تلك الأوهام في آيديولوجيات وجماعات وتنظيماتٍ عرفت بجماعات الإسلام السياسي وهي بنت منظوماتٍ فكرية ومفاهيمية وثقافية واسعة ومتشعبة لإعادة تلك الخلافة وفق نموذج خاص عملت عليه هذه الجماعات.

وقد انتشرت هذه الجماعات في الدول العربية الوارثة لأمجاد الخلافة الإسلامية وفي تركيا الوارثة للخلافة العثمانية، وشيء من ذلك تسرّب لإيران (الثورة الإسلامية) بعدما تبنّت سياسات ما سمّاه المفكر المغربي عبد الله العروبي «تسنين التشيّع» في تفاصيل طويلة ومهمة، ومن الطبيعي أن يوجد مثل هذا الإرث الإمبراطوري على تنوعه في هذه الأماكن.

الأمثلة توضح شيئاً من هذا السياق، وباكستان وماليزيا على سبيل المثال دولتان مسلمتان، ولكن ليس لهما إرث إمبراطوري خاص، ولهذا فالخطاب الإمبراطوري لديهما مستجلب من أوهام استعادة الخلافة الإسلامية، فخطاب أبو الأعلى المودودي الإمبراطوري لجأ للأمة والخلافة الإسلامية لأنه هو شخصياً قادمٌ لباكستان من الهند، والهند لها سياقٌ حضاري مختلفٌ تماماً عن طرحه وفكره، والأمر نفسه مع مهاتير محمد في ماليزيا الذي استجلب خطاباً إمبراطورياً ليس له ولا لبلاده، ولكنه أخذه من دولٍ أخرى واستورده وعمل عليه.

يصح هذا حتى في الإمبراطوريات الحديثة، فتجد دائماً بقايا تعبر عن هذا الإرث الإمبراطوري في الفكر والتاريخ كما في السياسة والثقافة، والإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس انتهت، ولكن إرثها لم ينتهِ، وما دول «الكومنولث» إلا تشبث بها من نوع خاص ضمن سياقات أخرى تعبر عن المعنى نفسه، والإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية انتهت، ولكن فرنسا ما زلت تتشبث بالمنظمة «الفرانكفونية» حتى لا ينطفئ ذلك الإرث، و«الكومنولث» البريطاني و«الفرانكفونية» الفرنسية تضم كل واحدة منهما عشرات الدول المنتشرة حول العالم.

هذه الخلفيات التاريخية العميقة تمنح الباحث قدرة على قراءة بعض السياسات والاستراتيجيات للدول المعاصرة، كما تمنح قدرة على فهم الدوافع التي تجعل بعض القيادات وبعض الدول تنفق المليارات وتدعم الجماعات أو الأحزاب أو تنشئها من العدم وتستبع الآلاف المؤلفة من البشر بالآيديولوجيات والخطابات والشعارات في مشاريع إقليمية ودولية لاستعادة شيء من ذلك الإرث وإحيائه والبناء عليه وبمثل هذا الإرث تدير صراعات الحاضر وتبني توسعات المستقبل.

التفاهمات والاتفاقات السياسية تحكم الدول والتزاماتها الحالية، ولكنها لا تلغي أي إرثٍ أو تاريخٍ يتمّ استحضاره والبناء عليه أو الترويج له، وقد شهدت العقود القليلة الماضية صراعاتٍ كبرى في منطقتنا بين مشاريع ثلاثة كبرى؛ هي المشروع الطائفي والمشروع الأصولي ومشروع الاعتدال العربي، وبسبب قوة التدافع تنازلت بعض الدول والجماعات عن مشاريعها المباشرة وخططها العملية وسياساتها المعروفة، واضطرت للتعامل مع واقع جديد فرضت قوة الأطراف الأخرى وتوازنات القوى إقليمياً ودولياً، ولكن الإرث سيبقى موجوداً على الدوام، والوعي به مهمٌّ في الحاضر والمستقبل.

في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، استغرب العالم جميعاً من الإعلان عن محاولة انقلابية في ألمانيا، فيها تنظيمٌ خطط لإسقاط النظام والحكومة والاستيلاء على المؤسسات الدستورية ولديه آيديولوجيا صارمة وسلاح ومستعد لارتكاب الجرائم لتحقيق المشروع، ويقوده أمير ومساعدون في قطاعات مختلفة، والمفارقة في هذا الخبر العجيب هي التي تؤكد هذا السياق وأن بعض الإرث الإمبراطوري الحقيقي أو المتوهم قادرٌ، على الدوام، على التعبير عن نفسه بأشكال متعددة وطرائق مختلفة، وهي لا تبقى دائماً في عالم الأفكار فحسب، بل تتجلَّى أحياناً على الواقع وتؤثر فيه.

أخيراً، فقد كتب الشاعر الألماني غوته يوماً قائلاً: «الذي لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إرث الإمبراطوريات لا يتلاشى إرث الإمبراطوريات لا يتلاشى



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 23:13 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
  مصر اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 09:29 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
  مصر اليوم - طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 04:48 2019 الإثنين ,08 إبريل / نيسان

أصالة تحيى حفلا في السعودية للمرة الثانية

GMT 06:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

محشي البصل على الطريقة السعودية

GMT 04:29 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشّف حقيقة مشاركتها في الجزء الثالث من "كلبش"

GMT 19:36 2018 الأحد ,22 إبريل / نيسان

تقنية الفيديو تنصف إيكاردي نجم إنتر ميلان

GMT 13:02 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

علماء يكشفون «حقائق مذهلة» عن السلاحف البحرية

GMT 20:26 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

إيران توقف “تليجرام” لدواع أمنية

GMT 22:47 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

مبابي يغيب عن نادي سان جيرمان حتى الكلاسيكو

GMT 21:12 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

الزمالك يحصل على توقيع لاعب دجلة محمد شريف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon