بقلم: عبدالله بن بجاد العتيبي
الغزاة الجدد في المنطقة هم المؤدلجون الذين تحكمهم أوهام الماضي وطموحات استعادة التاريخ الحقيقي أو المتوهّم، وهم ممتلئون قناعة بأن مجدهم المعاصر يكمن في الماضي، ولذلك فهم في سبيل استعادته قادرون ومهيأون لارتكاب أفظع الجرائم، واقتراف أبشع الخطايا.
الدول التي تتبنى هذا في واقعنا اليوم ثلاث في المنطقة، إيران وتركيا وقطر، وثالوث الشرّ هذا قائم على آيديولوجيا متشابهة، هي آيديولوجيا الإسلام السياسي التي أسستها جماعة «الإخوان المسلمين»، نهاية العشرينات من القرن الماضي، ثم تفرعت عنها جماعاتٌ وتنظيماتٌ وتياراتٌ لا تُعدّ ولا تُحصى.
أدمن النظام الإيراني إذلال شعبه، وتدجينه بالفقر والقهر لأربعين عاماً، وسعى لتأسيس ميليشيات إرهابية توازي قوة الدولة، وتكون مستعدة في أي لحظة للانقضاض على الدولة لبناء دولة الولي الفقيه الموالية لها في الدول العربية التي تمكّنت من التغلغل فيها، تحت غطاء طائفي ومذهبي لا علاقة له بالمذهب الشيعي، وإنما هو سعي محمومٌ للتوسع وبسط النفوذ.
تتركز المظاهرات في العراق في المناطق الشيعية تحديداً، وهي المناطق التي يحكم العراق بأحزابٍ وقياداتٍ تدّعي تمثيل المواطنين فيها، وهي تنتفض اليوم، من أقصاها إلى أقصاها، وتعبّر عن رفضٍ عميقٍ وواسعٍ لكل ما ينتمي للنظام الإيراني ولفكرته المحرّفة في استغلال المذهب الشيعي لأغراض الهيمنة السياسية وبسط النفوذ الإمبراطوري الذي لا علاقة له بالإسلام أساساً فضلاً عن المذهب الشيعي.
الوقاحة الإيرانية بلغت حدّاً غير مقبولٍ لدى الشعوب العربية، وتحديداً في العراق ولبنان، إلى درجة أن يخرج الولي الفقيه بنفسه، ويوجه تحذيراتٍ مباشرة لهذين الشعبين بأن عليهما أن يخضعا ويخنعا ويرضيا بالنفوذ الإيراني مرغمين، وإلا فسيسلّط عليهما أذنابه وأتباعه في سدة السلطة بهاتين الدولتين.
صراع المرجعيات داخل المذهب الشيعي معروفٌ، فالمرجعية الإيرانية يقودها علي خامنئي، وهي مرجعية تنتمي لتفسيرات الإسلام السياسي الحديثة، وقد تمّت صناعتها تأثراً بالخطابات السنية التي سبقتها في مصر وفي الهند وباكستان، وذلك على العكس تماماً مما استقرّ منذ قرونٍ في المذهب الشيعي، وتوالت عليه المرجعيات قروناً من رفض الخوض في السياسة أو إقامة الدولة، وهو ما تمثله مرجعية السيد علي السيستاني في العراق.
من هنا، جاء موقف السيستاني مستنكراً لهذه الوقاحة الإيرانية في تهديد الشعب العراقي، وأوضح أن مصالح الشعب العراقي ومطالبه بالإصلاح لا يعرفها أحدٌ مثل الشعب العراقي نفسه، ولا يجوز أن يتدخل فيها قائد سياسي لبلدٍ أجنبيٍ، ومدانٌ أي تدخلٍ خارجي في شؤون الدولة العراقية المستقلة. لم يعد أحدٌ في العراق ولبنان يثق بوعود الميليشيات التابعة لإيران، لأنهم رأوا على مدى عقودٍ مدى بشاعة وإرهاب هذه الميليشيات ودمويتها وفسادها، ولهذا أسقط في يد النظام الإيراني، وخرج حسن نصر الله مراراً في الأسابيع الماضية يهدد اللبنانيين، وشرعت بعض الميليشيات الشيعية في العراق في قنص المتظاهرين وقتلهم، قبل وبعد تهديدات خامنئي، واجتماعات قاسم سليماني بأتباعه في بغداد.
نظام الخميني في إيران هو النسخة الشيعية لجماعة «الإخوان المسلمين»، وقد سبق لكاتب هذه السطور وغيره تناول ذلك وشرحه بالتفصيل، وهو أمرٌ بات معروفاً لدى كثير من الباحثين، فالآيديولوجيا واحدة، والأهداف والغايات واحدة، والوسيلة، وهي استغلال الدين للوصول إلى السلطة، واحدة، والآليات هي استباحة كل جرمٍ من قتلٍ وتعذيب وجرائم إبادة ومجازر في سبيل تلك الآيديولوجيا، والوصول للسلطة بأي شكلٍ، والاستمرار فيها ليوم الدين.
في تركيا التي يحكمها حزب إسلامي ينتمي لجماعة «الإخوان المسلمين» يراه الجميع اليوم وهو يفتك بالأكراد في الدول العربية بطائراته وقواته المسلحة، ويدعم تنظيم «داعش» الإرهابي في العراق وسوريا وليبيا وغيرها، وقد وصل به الحال لاستخدام الأسلحة المحرمة دولياً في القضاء على المدنيين الأكراد في سوريا، وثبت عليه استخدام الفسفور الأبيض لحرق الأكراد رجالاً ونساءً، أطفالاً وشيوخاً، دون وازع من ضميرٍ أو رادعٍ من دين، وهو يستخدم آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الكفار المحاربين في شرعنة نكايته اللاإنسانية بمواطنين مدنيين في دولة أخرى.
أما قطر، فعلاقتها بالإرهاب أوضح من نارٍ على علمٍ، وقد استمرأت قيادتها السياسية التنكيل والقتل ونشر الفوضى والإرهاب في الدول العربية منذ تنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش»، ودعم الميليشيات الشيعية، وصولاً إلى الربيع الأصولي العربي الذي أبيد فيه الآلاف المؤلفة من مواطني الدول العربية المحتجة والمنتفضة، مطلع العقد الحالي، وهي مستمرة في غيها وانحرافها.
تحدو النظام الإيراني أحلام استعادة الإمبراطورية الفارسية، وفرض هيمنتها ونفوذها على الدول العربية، واستحضار الحقد الفارسي القديم على العرب الذين هزموا الفرس في معركة «ذي قار» الشهيرة، ثم أسقطت دولتهم وإمبراطوريتهم كتائب العرب المسلمين في صدر الإسلام، فسيطرت عليهم رغبة الانتقام من التاريخ ومن العرب، حتى اكتمل لهم بناء هذا النظام الشرير الإرهابي الطائفي المعادي للعصر وقوانينه وأنظمته ومؤسساته.
وتحدو النظام التركي أوهام استعادة الخلافة العثمانية التي يعتبرونها مجداً تركياً خالصاً وإمبراطورية لا تقل عن الإمبراطورية الفارسية في وقتها، ويسيطر على صانع القرار فيها أنه سيكون خليفة جديداً للمسلمين، وهو يتبنى نموذجاً مبنياً على آيديولوجيا «الإخوان المسلمين»، ويتصف بكل صفاتهم السيئة والمنبوذة، ويستحل في سبيل ذلك كل محرمٍ دينياً، وكل مدانٍ قانونياً في الأنظمة الدولية.
أما قطر، فهي بلا مشروع ولا غاية سوى خدمة هذين المشروعين المعاديَيْن للدول العربية بناء على أحقادٍ شخصية لقيادات مريضة هيّأت نفسها لتكون تابعة للمشروع الفارسي أو المشروع التركي أو المشروع الإخواني، وأثبتت أنها قادرة على الإضرار بالدول العربية والشعوب العربية بخلطة المتناقضات السياسية التي تبنّتها لبرهة من الزمان، ولذلك فبمجرد الانتباه لها ومقاطعتها من الدول العربية الأربع أصبحت دولة معزولة لا قيمة لها في حسابات التاريخ والسياسة.
لقد عرفت الشعوب العربية، وبالذات في الجمهوريات المحتجة إبان الربيع الأصولي الإرهابي، أن هذه الآيديولوجيات الأصولية هي آيديولوجيات قاتلة ودموية، وهو ما بدأت تكتشفه شعوب الدول شبه المحتلة من إيران في العراق ولبنان.
أخيراً، فإن هذه اليقظة الحاسمة في العراق ولبنان باتت تهدد بشكلٍ قوي كل أشكال النفوذ الإيراني في الدول العربية، وهي قابلة للاستمرار والتوسع، ويخطئ النظام الإيراني إن أصر على مواجهتها بالحديد والنار.