توقيت القاهرة المحلي 20:52:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

منصات الدراما وتزوير تاريخ الشعوب

  مصر اليوم -

منصات الدراما وتزوير تاريخ الشعوب

بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

سرقة تراث الشعوب وتاريخ الأمم جريمة، وتزويره وتجييره لإرضاء لوبيات مؤثرةٍ وتياراتٍ منظمةٍ في أميركا جريمةٌ أخرى، وهو ما أصبح يثير الكثير من الجدل المستحق جرّاء تصرفاتٍ باتت تخرج من «هوليوود» الأميركية ومنصات الدراما الحديثة في «نتفلكس» ومثيلاتها. «الشذوذ الجنسي» واحدٌ من المؤشراتِ التي باتت علامةً فارقةً في كثيرٍ من الإنتاجات الدرامية الأميركية والغربية عموماً، وأخذت معارك تدور داخل أميركا وخارجها ضد تكثيف الشذوذ وتطبيعه عبر الدراما، بل وصل الأمر ببعض الإنتاجات أن أصبحت تسوّق الشذوذ عند الأطفال وفي الدراما التي تخاطبهم من أفلام كرتونية أو غيرها. ضمن السياق الأميركي كانت معاناة «السود» طويلة جداً مع الرقّ والعبودية، ومع الممارسات العنصرية البغيضة ضدهم إلى عقودٍ قريبةٍ مضت، وقد استطاع السود عبر الكثير من الحركات والمنظمات والرموز والقيادات التي تمثلهم منذ الخمسينات والستينات أن يتحصلوا على الكثير من حقوقهم، وأن يصل أميركي أسود لرئاسة الولايات المتحدة تتويجاً لتلك الجهود المتعاقبة، ووصل النجاح لديهم إلى «هوليوود» والدراما، وأصبح ثمة إنتاجات ضخمةٌ يكون أبطالها الخارقون من ذوي البشرة السوداء مثل «بلانك بانثر». وبعض هذه الحركات والمنظمات المعاصرة بدأت تشطح وتخرج عن السياقات الطبيعية لتطور سابقاتها، ونجد حركة مثل «بلاك لايف متر» أو «حياة السود مهمة» وغيرها تقوم بعمليات احتجاجية تهدد أمن المجتمع المحلي الأميركي، وفي سياق الدراما تتجه منصة «نتفلكس» لإنتاج عملٍ عن «كليوباترا» المصرية التي هي من أشهر رموز التاريخ المصري القديم، ولكن مجاملةً لهذا التيار تجعلها «سوداء البشرة». قامت قيامة المصريين، داخل مصر وخارجها، وبعضهم من المتأثرين بطروحات اليسار الليبرالي الأميركي، ولكنهم لم يستطيعوا تحمّل مثل هذا التزوير الفج والسطو العلني على تاريخٍ ضاربٍ بأطنابه في القدم، من أجل حفنةٍ من اللوبيات المؤثرة داخل أميركا، وكانت الردود مستحقةً في احتجاجها ورفضها هذا العبث الحقيقي. مع تفشي ظاهرة «التفاهة الممنهجة» في العالم بأسره وعلى المستويات كافة فإن أثر الدراما يتجاوز الترفيه إلى الثقافة والمتعة إلى التاريخ، وهنا تتضاعف المشكلة، فيصبح تناول التاريخ أو الثقافة باستخفافٍ بيّنٍ وتزييفٍ ظاهرٍ مثار جدلٍ كبيرٍ؛ ذلك أن كثيراً من المشاهدين سيعدون ما تطرحه الدراما مسلَّماتٍ تاريخيةً أو ثقافيةً، وسيبنون عليها آراءً ومواقف متعددة، وتلك مشكلة حقيقية. لتفهم غضب المصريين يمكن للقارئ تخيّل تاريخه الشخصي أو العائلي، ومن ثم تاريخه الوطني ورموزه، وتاريخه العربي الطويل كقوميةٍ وتاريخه الإسلامي كأمةٍ، ثم يستحضر شخصياته الرئيسية والبارزة، ثم يتصور أن تُنْتِج عنه هذه المنصات أعمالاً دراميةً كبرى، ولكنها تعبث به أيما عبثٍ، فتبرز فارساً مغواراً على أنه «شاذّ» جنسياً، أو قائداً أو خليفةً على أنه «أسود البشرة»، وهي تصنع ذلك لإرضاء لوبياتٍ أميركية أو غربية معاصرة، ضاربةً بعرض الحائط كل حقائق التاريخ ومسلَّماته، وهو أمرٌ سيحدث بالتأكيد إذا استمرت التطورات بالاتجاه نفسه. تغاضيت عمداً عن عدم تسمية أمثلةٍ من أسماء وطنيةٍ أو عربية أو إسلاميةٍ هنا قد تكون صادمةً للقارئ، ولكن بإمكان القارئ استحضار أي اسم ذي قداسةٍ أو مكانةٍ دينيةٍ أو سياسيةٍ أو علميةٍ لتتضح له الفكرة، ويتصوّر فداحة الجناية على التاريخ، والعبث به دون أي مسوغاتٍ دراميةٍ حقيقيةٍ. الدراما واحدةٌ من أهم أدوات القوة الناعمة المعاصرة، ويمكن من خلالها إيصال رسائل هادفةٍ وبالغة الأهميةِ سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وإدراك ذلك يفسّر الميزانيات الضخمة التي ترصد لإنتاجها على المستويات كافة دولياً وإقليمياً، ويفسر حجم أسواقها المليارية حول العالم، ومن هنا فهي موضوع جادٌ جداً، وأكبر من أن يُترك لبعض الفنيين الذين لا يدركون أبعاده وخطورته. في الشرق الأوسط هناك صراعات على التميّز في الدراما، وعلى استخدامها بوصفها قوةً ناعمةً للتأثير في الجمهور المستهدَف في المنطقة، ويكفي هنا نموذجان: النموذج التركي والنموذج الإيراني، في النموذج التركي هناك أكاذيب تاريخية وافتراءاتٌ على شعوب المنطقة، وتمجيد لتاريخ الأتراك ينافي ما جرى في التاريخ، وهناك إنتاجاتٌ دراميةٌ لا علاقة لها بالتاريخ تروّج لتركيا بوصفها بلاد الحب والغرام والسياحة والثقافة، ولئن كانت النجاحات الدرامية المحضة حقاً لتركيا كما هي حقٌ لغيرها، فإن الدراما التاريخية ليست كذلك. الدراما الإيرانية نوعان، نوعٌ مدعومٌ من الدولة، ونوعٌ عامٌ يمثل المعارضة أو هو مستقلٌ، النوع الثاني هو إنتاجٌ فنيٌ له معايير لقياسه، أما النوع الأول فهو دراما مسيّسةٌ، وهي حين تتناول التاريخ تكون دراما طائفيةً فجةً ومذهبيةً فاقعةً، ولذلك فالفرق كبيرٌ بين الدراما التركية والإيرانية في هذا السياق. كثيراً ما خدمت الدراما الأميركية سياسات واشنطن على المستويات كافة، وفي الأزمات والملفات كافة، فكرياً وسياسياً، واجتماعياً وثقافياً، والقائمة طويلةٌ في هذا السياق، وقد تعلمت تركيا من ذلك إقليمياً، وبرزت إنتاجاتها الدرامية التاريخية تمجد التاريخ العثماني القاتم، وتصف جرائم الأتراك التاريخية بحق الشعوب العربية على أنها بطولاتٌ تركيةٌ. الدراما العربية هي الغائب الأكبر عن هذا الصراع الدرامي الإقليمي، وهي موجودةٌ، ولكنها متأخرةٌ عن مثيلاتها، وهذا لا يقلل بحال من نجاحاتها في استهداف المشاهدين العرب أو المواطنين في كل دولةٍ، أما التأثير في الدراما العالمية فهو مطمحٌ ما زال بعيد المنال، ويحتاج فكراً ورؤيةً تتجاوز الواقع وتحدياته إلى المستقبل وطموحاته. حتى ندرك جناية الدراما المزيفة على التاريخ فلنتصوّر «عمر بن الخطاب» أو «معاوية بن أبي سفيان» أسود البشرة، وليس مقصود هذا السياق التقليل من سواد البشرة بأي شكلٍ من الأشكال، فهذا مخالفٌ للإنسانية، ولكن المقصود أنه افتراءٌ على التاريخ، فهما صحابيان جليلان، وخليفتان عظيمان، وهما عربيان من قبيلة قريش الحجازية المعروفة، وبالمقابل، فلنتخيل عملاً درامياً يخرج «بلال بن أبي رباح» أو «عنترة بن شداد» أبيض البشرة أزرقي العينين، ولو حدث شيء من ذلك فهو افتراء على التاريخ وتزويرٌ له دون أي مسوغٍ. أخيراً، فثمة معايير يمكن وضعها لإنتاج الدراما التاريخية حتى لا تقع في التزوير والافتراء، وهي مختصرةٌ ومهمةٌ وتصنع الفارق، وهناك تجارب أميركية وأوروبية قبل عقودٍ من الزمن لصناعة تلك المعايير، ونحتاج مثلها عربياً في هذه المرحلة.

 

كُتّاب الشرق الأوسط
المزيد
الأكثر قراءة
اليوم
الأسبوع

1
الهند تفرض المزيد من القيود على صادرات الأرز... والأسعار العالمية بخطر
2
طبيب يحذر: لا تتناول هذه الأطعمة على معدة فارغة !
3
عقار لإنقاص الوزن يثبت فاعليته لعلاج مشكلات القلب
4
لماذا يرتفع مستوى السكر بالدم في الصباح؟ خبير يجيب
5
أطباء يكشفون أسباب تنميل اليدين ليلا
المزيد من مقالات الرأي

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

منصات الدراما وتزوير تاريخ الشعوب منصات الدراما وتزوير تاريخ الشعوب



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة
  مصر اليوم - حزب الله يعلن قصف قاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل لأول مرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 20:50 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض
  مصر اليوم - منة شلبي تقدم شمس وقمر في موسم الرياض

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 09:20 2024 الخميس ,08 شباط / فبراير

نصائح لعرض المنحوتات الفنية في المنزل

GMT 04:36 2024 الإثنين ,14 تشرين الأول / أكتوبر

فئات مسموح لها بزيارة المتحف المصري الكبير مجانا

GMT 15:44 2021 الجمعة ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل حوار باتريس كارتيرون مع رزاق سيسيه في الزمالك

GMT 06:24 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

رينو 5 الكهربائية الجديدة تظهر أثناء اختبارها

GMT 08:54 2017 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

نادية عمارة تحذر الأزواج من مشاهدة الأفلام الإباحية

GMT 00:03 2024 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

كيت ميدلتون ترسل رسالة لنجمة هندية بعد شفائها من السرطان

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon