يتميز المصرى بحميّة وغيرة على بلاده بشكل جبار، اسم مصر عنده مقدس، هكذا ورث الأمر عن الأجداد الذين نقشوه على الجدران والمسلات أو نثروه تعويذة فى أرجائها، فباتت الغالية مصر أغلى وأثمن من الروح ومن كل ثمين.
وبجانب هذه الحمية والغيرة على الأرض ودفن غزاتها بها ودحر أعدائها، هناك أيضاً ميزة للمصرى أتحدى أن يكون هناك مثلها فى بلاد العالم، وهى صفة حسن الوفادة والضيافة، المصرى يعامل أى شخصية غريبة عن أرضه كأنها ضيفه الشخصى، هو يحب الآخر، ويحب الترحيب والضيافة، فى مصر تجد لهفة الملهوف، وإيواء اللاجئ، وإغاثة المحتاج، ولو كان هو نفسه محتاجاً! بل إنه يعامل الغريب معاملة أفضل بكثير مما يعامل بها بنى جلدته.
فى مصر نستقبل ضيوفنا بالبسمة الحقيقية، وإن غادرونا بكينا لوعة الفراق (وإن كان الضيف لأيام معدودة)، نحن شعب يُقْبِلُ على الآخر، لا عنصرية لدينا ولا بُغض، نرحب بالهندى قبل الإنجليزى، والصينى مثل الأمريكى، لا فرق.
لكن إن تجاوزت الزيارات مدتها، وأصبحت إقامات طويلة، فلا بد للأمر أن يتغير بطبيعة الحال، ويبدأ المصرى فى التعامل مع الوافد لَيْس كزائر بل كمقيم يقترب من صفات المواطن، لهذا كانت الملاحظات الأخيرة بشأن الإخوة العرب المقيمين والمستقرين بمصر.
منذ سنوات كان هناك صاحب البقالة اليونانى، والخباز الإيطالى، والطباخ الفرنسى، والمدرس الإنجليزى، كلهم عاشوا بمصر وتزوجوا وأنجبوا أجيالاً جديدة مزيجاً وخليطاً متجانساً، كلهم دخلوا بنسيجها، وأصبحوا خيطاً فى نولها، وعقدة وغرزة وثيقة موثقة وموفقة، وبعضهم كوّن جاليات بها، وعاش سنوات طوالاً على أرضها فى أمان وسلام.
كذلك كان الفتح الإسلامى، والدخول العربى أيضاً امتُصَّ بهذه الأرض، وأصبحنا الدولة العربية الأكبر والقائد، مع أن جذورنا لا تنتمى لشبه الجزيرة، بل وأصبحنا اللهجة العربية الأقرب للفصحى، والمفهومة من جميع الناطقين بلسان الضاد.
عندما هاجر أهل البيت كنّا أول قِبلة، واستقبلنا حضراتهم بأجمل وأحر وأنبل أنواع الحب، وما زلنا نفتدى أضرحتهم بالروح ودموع العين، أسيادنا آل بيت النبوة، وسلالة خير الخلق.
ومن قبل هجرة آل البيت الكرام، كانت رحلة العائلة المقدسة وأحباء الله وأصفيائه، سيدنا عيسى عليه السلام، وسيدتنا مريم البتول، أطهر نساء العالمين، رحلوا إلى مصر فراراً من الظلم والبطش، وجاءوا إلى أرض السلام، وما زال مسراهم ينير هذا البلد ويقدس أراضيه مباركين هم أينما حلّوا ورحلوا.
هى مصر، بلد الوفادة والريادة، وإن جارت عليها الظروف، وتكاثرت عليها الأنواء، إلا أن أصالتها مطبوعة على جدرانها، حنونة هى على ضيوفها عرباً وأجانب، وصارمة حادة لا ترحم أعداءها أو الطامعين بترابها.
تذكرت كل هذا ونحن نعلق على فيديو لإحدى الزائرات العرب لبلادنا، وكانت فى حالة هستيرية، تشتم وتلقى اللعنات يمنة ويسرة، وتنفث غضباً، تعليقاً على أشياء حدثت معها، ثم عادت وتراجعت واعتذرت، إلا أن الحمية قد ابتعدت كثيراً ببعض مواطنينا، فأقاموا عليها وعلى جذورها حرباً لا تهدأ، بصراحة ليست هذه روحنا ولا أخلاقنا، ما أدرانا بظروفها وما تعانيه هذه الفتاة، ما جعلها تقول ما قالت؟! لماذا أصبحنا بهذه السطحية وهذه القسوة؟! حرب شُنت على الفتاة من رجال ونساء عبر مواقع التواصل الاجتماعى وقضية وتصعيد.. لماذا؟! لماذا نقف عند صغائر الأمور وتوافهها؟! كان يكفى لفت انتباهها أو حتى المطالبة بترحيلها.
الوطنية والحمية على اسم الوطن لا تكون بهذا الشكل، الغيرة على الوطن تكون بالسعى فى رِفعته وتطوره والنهوض به، ودحر كل عيوبه، هذه هى الوطنية التى أفهمها، لكن أن تقام حرب على فتاة وحيدة غريبة، ربما كانت تحت ضغط نفسى أفقدها صواب المنطق والأدب، فهذا موقف لا أفهمه، انتهت مشكلاتنا لنشغل البال والوقت بموقف كهذا؟! رفقاً أبناء بلدى، رفقاً وعَوداً لصفاتكم الكريمة بحسن الوفادة والتعالى على صغار الأمور، بل اسعوا لئلا ينتقدكم أحد، اسعوا لدحر عيوبنا الاجتماعية قبل أن نعيب على الآخر انتقادنا.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع