بقلم - محمد علي السقاف
ربما لا أبالغ لو قلت إن أزمة أوكرانيا تعد أحد أكبر التحديات التي تواجه مرشحي الرئاسة الفرنسية في مدى قدرتهم وأهليتهم للجلوس على مقعد الرئاسة، الذي يمثّل أهم المناصب في سلطات الدولة الفرنسية، وتشكّل أيضاً تحدياً للرئيس والمرشح ماكرون لاستحواذ الأزمة على الجزء الأكبر من مشاغله الرئاسية، التي أبعدته عن الحملة الانتخابية والحضور أمام جماهير الناخبين.
في 10 أبريل (نيسان) المقبل أي خلال أقل من أسبوعين، ستبدأ الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، في حين فقط في 3 مارس (آذار) الماضي، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطاب وجهه للفرنسيين، رغبته في الترشح للرئاسة لولاية ثانية.
ومنذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، اتجهت الأنظار الفرنسية إلى أزمة أوكرانيا، واحتلت أحداثها المرتبة الثانية، وأخذت النقاشات الطابع الدولي وأظهرت استطلاعات الرأي لحساب صحيفة «لوموند» بتاريخ 5 مارس، أن أزمة أوكرانيا شكّلت موضوع قلق شديد لدى 50 في المائة من الفرنسيين، واحتلت بذلك المرتبة الثانية مباشرة بعد موضوع تحسين «القوة الشرائية» الذي تصدر بنسبة 52 في المائة، وجاءت قضايا البيئة في المرتبة الثالثة من اهتمامات المواطنين الفرنسيين.
ولم تقتصر مخاوف الناخب من اندلاع الحرب في أوكرانيا فحسب، بل أيضاً من تبعاتها على قدرتهم الشرائية بسبب ارتفاع أسعار الوقود ومعدلات التضخم.
أحد الأسباب التي دعت الرئيس الفرنسي للتأخر في الإعلان الرسمي عن نيته تجديد ولايته الرئاسية، وإن كانت جميع المؤشرات كانت توحي من خلال تنظيم بعض التسريبات الصحافية عن بعض جوانب من برنامجه الانتخابي، برغبته في الترشح. كان من نتائج اتباعه المتعمد عدم الإفصاح عن رغبته في الترشح، أن كثيرين من المرشحين للرئاسة سواء من معسكر اليمين المتطرف واليمين المعتدل أو على مستوى اليسار بتياراته المختلفة، أظهرت تصريحاتهم حول الأزمة الأوكرانية مدى التناقض والتعارض والتباين فيما بينهم، في مرحلة بداية الأزمة وبعد اجتياح القوات الروسية لأوكرانيا، الأمر الذي وضع بعض المرشحين أمام الرأي العام في مواقف لا يحسدون عليها من تأكيد البعض منهم، في البدء، عدم اعتقادهم بإمكانية أن يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاجتياح لتحقيق وفرض مطالبه على قادة أوكرانيا، وسرعان ما قاموا بالترويج لذلك، ودفعهم الاجتياح إلى التراجع عن مواقفهم السابقة ومحاولة تبريرها.
فقد أظهر المشهد الانتخابي للرئاسة اختلاف مواقف شخصيات اليمين المتطرف أمثال إيريك زمور (حزب الاسترداد) في مواجهاته مع مارين لوبان من حزب التجمع الوطني قبل اجتياح أوكرانيا وبعده.
وكذلك مواقف قيادات اليسار، حيث قام جان لوك ميلنشون من حزب فرنسا الأبية، ممثلاً عن اليسار الراديكالي، في البداية، بإعلان مناصرته وتأييده للرئيس بوتين مقارنة بمرشح الحزب الشيوعي الفرنسي فابيان روسيل، والمرشحة آن هيدالغو عن الحزب الاشتراكي والأمين العام لبلدية باريس.
أكثر المرشحين تورطاً وتناقضاً في موقفه تمثل في شخص إيريك زمور المصنف بأنه «يميني متطرف»، فهو صحافي وكاتب من أصول يهودية جزائرية، أطلقت عليه الصحافة الفرنسية لقب «ترمب فرنسا»، وهو معادٍ للعرب والهجرة، رغم أن أصوله ترجع إلى الجزائر.
ففي بدء الأزمة الأوكرانية، انتقد زمور استخدامها أميركياً وانتقد استراتيجية الحلف الأطلسي (الناتو) بالقول «أريد علاقات طبيعية وهادئة مع روسيا من دون تواطؤ أو استفزاز غير مبرر»، مشيراً إلى أنه بالنسبة له فإن الأمور واضحة؛ «توسيع الناتو على أبواب روسيا لا يوجد له أي مبرر لأمن أوروبا، وأنا ضد ذلك»، حسب تصريحه، «فالروس ليسوا حلفاءنا ولا أعداءنا». وأكد زمور أنه كان يرى في الرئيس بوتين أنه «الديمقراطي المستبد»، ولن يقوم باجتياح أوكرانيا، واعترف زمور بخطئه، مبرراً ذلك بأنه بنى موقفه حسب رأي بعض الخبراء والمحللين السياسيين. ومن الموضوعات الشائكة الأخرى، ما يتعلّق بمدى إمكانية استقبال وإيواء اللاجئين الأوكرانيين في فرنسا، حيث أبدى زمور في البداية معارضته، ولكنه في إطار تنافسه مع زعيمة اليمين مارين لوبان، أقر بقبولهم بشرط دراسة كل حالة بمفردها، للحصول على تأشيرة دخول الأراضي الفرنسية، وانتهز في هذا الصدد قضية اللاجئين للتنديد بما سمّاه «سطوة الإعلام» بالحديث عن أزمة أوكرانيا في هذه الحملة الانتخابية، في حين أن «الصراع هو بين الإخوة الروس والأوكرانيين، ما يلهينا عن التركيز على صراع الحضارات، الصدمة الحقيقية التي تواجهنا، فقضايانا الرئيسية هي في الجنوب وليس في الشرق»، وتعزيزاً لكلامه يعرض فريقه الانتخابي فيديوهات لمهاجرين من أفريقيا وهم يحاولون التسلل إلى أوروبا.
وفي حين كانت مارين لوبان في موضوع الهجرة تعارض قدوم اللاجئين السوريين في عام 2015، رأت في الحالة الأوكرانية أنه «من الطبيعي» استقبالهم كأوروبيين في فرنسا، وبذلك يتوافق موقفها مع استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن 79 في المائة من الفرنسيين موافقون على استقبالهم.
القاسم المشترك بين زمور ولوبان يتمثل في كونهما، وفق بعض المراقبين، مواطنين متعصبين لوطنيتهما، والفارق بينهما أن زمور ظل بقناعاته الآيديولوجية، في حين لوبان هي شخصية براغماتية، فهي لم تعد تتحدث عن العقوبات ضد روسيا، وإنما تبحث في تداعياتها وثمن ذلك على الفرنسيين. وقد لاقى مرشحو اليمين انتقادات لاذعة في مدينة كان، من قبل المرشحة الليبرالية فاليري بيكريس، التي قالت: «اليوم سقطت الأقنعة، مثلكم استمعتُ إلى ما صرحت به مدام لوبان حين قالت لنا إن بوتين يحمل مشروعاً سياسياً في روسيا ونريد مثله لنا في فرنسا، واستمعت إلى زمور يقول (إنه يحلم لفرنسا مثل بوتين رئيساً)... الخزي والعار لهما»، وقالت إن الرئيس في فرنسا لا يمكن أن يكون تحت تأثير وسيطرة ديكتاتور أجنبي، ووزعت فيديوهين أحدهما بعنوان «فلاديمير زمور» والآخر «مارين – بوتين»، فمرشحة حزب الجمهوريين فاليري ترى أن على فرنسا أن تكون القوة الضاربة في الدفاع عن الديمقراطية، ودافعت عن فرنسا الديغولية التي تختار، بوعي، حلفاءها ولا تتبع الولايات المتحدة وهي من دون شك ليست حليفة لبوتين وروسيا.
أمام مختلف هذه التجاذبات بين المرشحين البارزين حول الأزمة الأوكرانية يتميز موقع الرئيس ماكرون عنهم بكونه رئيس الدولة الفرنسية المقيم في قصر الإليزيه.
ومن حسن الطالع له أن فرنسا حالياً تتولى رئاسة المجلس الأوروبي الذي يمثّل جميع حكومات الاتحاد الأوروبي، ما أهّله ذلك للقيام بدور بارز في التنسيق بين 27 حكومة أوروبية من أجل تنفيذ العقوبات المقررة على موسكو بعد اجتياحها كييف، وبهذا استفاد ماكرون من جمع القبعتين، إذا جاز التعبير؛ رئيس فرنسا ورئيس المجلس الأوروبي، ما أسهم في تسليط الأضواء عليه وعلى كل تصريحاته ومكالماته التليفونية المتكررة مع الرئيس بوتين وكذلك مع فولوديمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، للتوسط لحل الأزمة الأوكرانية.
وأظهرت الاجتماعات الأخيرة يومي الخميس والجمعة 24 و25 مارس، المكانة الدولية للرئيس ماكرون بمشاركته في بروكسل في اجتماعات الناتو، وقمة مجموعة الدول السبع واجتماع المجلس الأوروبي، ما عزّز صورته في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بخلاف بقية المرشحين، ما جعل البعض يرى أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا زاد من فرص فوز ماكرون بالانتخابات الرئاسية المقبلة حتماً في جولتها الأولى في 10 أبريل المقبل.