بقلم - محمد علي السقاف
لكل دولة سياستها الدولية وفق قدراتها المادية والعسكرية والأمنية، وهنا تتميز سياسات الدول العظمى عن بقية الدول المتوسطة والصغيرة.
في جميع العصور، الدول العظمى من دون استثناء رسمت سياساتها على أساس نهج إمبريالي، بينما الدول الصغرى محدودة القدرات، هي أكثر الدول التي تحرص على احترام مبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية بمبادئها المختلفة من مبدأ المساواة القانونية بين الدول، واحترام سيادتها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية... إلخ.
والدول العظمى من جانبها، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قامت هي أيضاً بالتأكيد على التزاماتها باحترام قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية التي عممت كمبادئ أممية على جميع أشخاص القانون الدولي، ضرورة الالتزام بها واحترامها.
الفارق الذي يميز هنا بين مواقف الدول العظمى عن بقية الدول الأخرى المتوسطة والصغرى يكمن في تفسيرها مبادئ القانون الدولي وفق مصالحها الوطنية والاستراتيجية، وليس بموجب التزاماتها القانونية الدولية وإزاء ميثاق الأمم المتحدة.
ولم يقتصر هذا التوجه على التفسيرات الخاطئة للقانون الدولي على دولة عظمى من دون غيرها، بل كان كذلك السياسة ذاتها التي اتبعتها بريطانيا وفرنسا لتبرير هيمنتهما واحتلالهما عدداً واسعاً من مناطق مختلفة في العالم، وتبنّت التفسير ذاته الولايات المتحدة لتبرير حربها على فيتنام، واحتلالها أفغانستان والعراق.
ومن أكثر مبادئ القانون الدولي الذي تم انتهاكه من قبل الدول العظمى، موضوع أهمية احترام سيادة الدول الذي أكده ميثاق الأمم المتحدة.
ولكن بعض الدول في حقبة فترة الاتحاد السوفياتي قامت مع ذلك في أغسطس (آب) 1968، باجتياح تشيكوسلوفاكيا هي وعدد آخر من دول حلف وارسو؛ ألمانيا الديمقراطية وبلغاريا وبولندا، بحجة خروجها عن نمط النظام الاشتراكي، في محاولتها التوفيق بين المبادئ الاشتراكية والرأسمالية وإرساء الديمقراطية، وهو ما جرت تسميته «ربيع براغ» الذي أطلقه ألكسندر دوبتشيك، سكرتير عام الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، وفسّرت عملية اجتياح تشيكوسلوفاكيا بأنها تنطلق من مفهوم أن دول حلف وارسو لا تمتلك إلا «سيادة محدودة أو سيادة مقيدة».
والسؤال المطروح هنا: هل يمكن المقاربة بين ما قام به الاتحاد السوفياتي في عهد بريجنيف بوجود حلف وارسو حينها، مع الأحداث التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي والسياسة التي يتبعها فلاديمير بوتين في الوقت الحاضر منذ توليه رئاسة روسيا الاتحادية، خلفاً ليلتسين في مطلع عام 2000؟
في كتاب الدبلوماسي السوفياتي السابق فلاديمير فيدوروفسكي عن بوتين باللغة الفرنسية، حلّل بامتياز شخصية الرئيس الروسي، كيف أنه مبكراً سعى للالتحاق بجهاز «كي جي بي» للجاسوسية، نصح بأن يسعى أولاً لتسهيل قبوله في الجهاز بأن يؤهل نفسه بدراسة القانون، وهو ما قام به وتخرج في كلية الحقوق في عام 1975، واستفاد بوتين من عمله في الـ«كي جي بي» من ناحية غموض شخصيته وظهوره كرجل «مشفر»، حسب تعبير الكاتب، حيث تختفي وراء شخصيته عدة شخصيات في آن، فهو رجل مخابرات، وإداري متمكن، ومناور كبير، يتقمص شخصية القيصر الذي يريد إعادة أمجاد الفترة القيصرية وتأهيل روسيا في مواجهة تحديات القرن الـ21.
واعتبر الكاتب أن بوتين هو الوحيد في تاريخ روسيا الذي كان مجهولاً في البداية، استطاع بذكاء استخدام التلفزيون لترويج شخصيته ومعرفة كيفية الوصول إلى عقلية المواطن الروسي.
وقد اكتسب استفاد من العمل مع اندروبوف وخبرة بريجنيف من ناحية إرساء نظام مركزية السلطة وتراتيبها من الأعلى إلى الأسفل، في إحكام قبضته على مفاصل السلطة، والأمر المدهش الذي سرده الكاتب هو أن بوتين قسّم معاونيه في السلطة بين مَن يمثلون تيار الصقور وتيار الحمائم، حيث كانت تتم تسمية مسؤول ما بأنه من الصقور يطلب منه في فترة من أن يتحول من تيار الصقور إلى تيار الحمائم توزيع هذه الكليشيهات مجرد توزيع في الأدوار، ويظل بوتين هو الوحيد صاحب وصانع القرار النهائي، وأي سلوك مخالف لذلك من قبل معاونيه يتم تصحيحه مباشرة من دون انتظار.
مثّلت أوكرانيا للكرملين «أزمة وجودية» ليس فقط بسبب ضياعها بانتهاء مكانة الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى بنهاية عام 1991، وإنما أيضاً من مخاوف على طبيعة النظام السياسي الروسي القائم على مركزية السلطة، الذي لم يعد يمثل نموذجاً مغرياً للجمهوريات السابقة التي كانت جزءاً من الإمبراطورية السوفياتية. فقد ظلت في ذاكرة الرئيس بوتين المظاهرات الصاخبة التي اندلعت في موسكو في ديسمبر (كانون الأول) 2011، إثر «الثورة البرتقالية» المدعومة أوروبياً التي عمّت أوكرانيا، البلد المتاخم لروسيا، وإمكان انتقال عدوى ثورتها إلى روسيا.
في عام 2014، قامت روسيا بدعم القوات الشعبية في شبه جزيرة القرم، بعدما أعلن المجلس الأعلى لجزيرة القرم استقلالها في 17 مارس (آذار) 2014، ثم انضمت إلى السيادة الروسية بعد استفتاء شعبي شهد تصويت أكثر 96 في المائة لمصلحة الانضمام، وكانت روسيا قد أحبطت مشروعاً أميركياً داخل مجلس الأمن لاستصدار قرار يقضي بعدم شرعية الاستفتاء سابق الذكر، وذلك باستخدامها حق الفيتو.
وعليه فرض الغرب عقوبات على روسيا شملت تجميد أموال مسؤولين روس، وحسابات شركات روسية، وحظر التعامل في مجالات اقتصادية؛ أهمها المجال المصرفي، ما سبب خسائر فادحة للاقتصاد الروسي بعدد من المليارات من الدولار.
مما لا شك فيه أن أبرز التحديات والتهديدات التي تواجه الأمن الروسي يتمثل في تعزيز حلف الأطلسي (الناتو) لقدراته العسكرية، وتوسعه باتجاه الحدود الروسية ومخاوفه من احتمال انضمام أوكرانيا إلى عضوية حلف «الناتو»، ما أدى إلى نشوب الأزمة الخطيرة الراهنة مع أوكرانيا وتداعياتها على الأمن القومي الروسي.
السؤال: كيف أدار بوتين أزمته الجديدة مع أوكرانيا ومع العالم الغربي؟ هل أفرط في مناوراته وتحديه للكتلة الغربية، أم أن الغرب ذاته هو الذي استهان بقدرات روسيا في التصدي من خلال استعداده المبكر لجميع الاحتمالات وردود الفعل على مواقفه بفرض عقوبات صارمة تُحدث أضراراً جسيمة للاقتصاد الروسي، وتؤدي إلى إضعاف مكانته وتحالف دول المعسكر المناهض للدول الغربية الديمقراطية؟
وللحديث بقية...