بقلم : د. محمد علي السقاف
تناولنا في مقالنا الأخير في هذه الصحيفة «مفارقات صادمة من تداعيات حرب أفغانستان»؛ تطرقنا في نهاية المقال إلى كيف امتعضت بريطانيا وعدد من الدول الأوروبية من غياب تنسيق الولايات المتحدة، حليفهم الرئيسي، في موضوع اتخاذها قرار الانسحاب من أفغانستان بعد 20 عاماً من مشاركتهم لها في غزو أفغانستان على أثر أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
بجانب الأصوات المنتقدة لحكومة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، من حزب المحافظين في نقاش مجلس العموم قبل أسابيع قليلة بتساؤلهم إذا كانت السياسة الخارجية البريطانية تقرر في لندن أم في واشنطن؟
في جلسة مجلس العموم الصاخبة التي انعقدت في 18 أغسطس (آب) الماضي، التي دعي لانعقادها للتداول حول الأحداث المتسارعة في أفغانستان، اعتبر ما حدث فيها يشكل فشلاً ذريعاً، وأظهر حجم اعتماد المملكة المتحدة على الولايات المتحدة، وصعوبة تبنيها سياسة مستقلة عنها، حيث تساءلت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي، عن مدى صحة الشعار الذي رفع بعد «بريكست» بتحقيق حلم «بريطانيا العالمية»، الذي كان يعني ميلاد سياسة بريطانية مؤثرة في العالم، والذي أصبح ذلك أمراً بعيداً عن الواقع، وقالت إن كثيراً من المؤشرات لم تتوفر أيضاً إلى إدلاء «بريطانيا العالمية» برأيها في المكتب البيضاوي حين اتخذ دونالد ترمب وجو بايدن قراريهما المصيرين اللذين حددهما باختصار نهج «أميركا أولاً». وأضاف أحد البرلمانيين في الجلسة ذاتها القول: أين تقرر سياستنا الخارجية هنا (في لندن) أم في واشنطن؟ وكان أكثر النواب من حزب المحافظين الذين انتقدوا بقوة سياسة بلادهم ثمانية نواب شاركوا شخصياً في الحرب الأفغانية مثل جوني ميرسير، الذي تساءل كيف يمكن لبلاده التي تحملت سنوياً مبلغ 40 مليار جنيه إسترليني لقوام جيش مهني من الدرجة الأولى ألا تستطيع الانسحاب من أفغانستان من دون موافقة الأميركان؟
ورداً على هذه الانتقادات، قال بوريس جونسون: علينا رؤية الواقع المؤلم «كما هو»، فمنذ 2009، 98 في المائة من الأسلحة التي زود بها حلف شمال الأطلسي (الناتو) هي أسلحة أميركية. وفي قمة بداية التدخل في أفغانستان كان إجمالي عدد القوات 132000 من أفراد القوات المسلحة 90000 منهم جنود أميركيون، لذلك لا يستطيع الغرب الاستمرار في الحرب من دون الدعم اللوجيستي الأميركي وسلاح قواته الجوية، مضيفاً أن الحلفاء الغربيين لا يستطيعون من دون الولايات المتحدة، ولا البريطانيون على استعداد لإرسال عشرات الآلاف من الجنود الإضافيين. ومن جانب آخر، دافع وزير الخارجية البريطاني دومنيك راب، الذي انتقد لإدارته للأزمة الأفغانية، عن نفسه يوم الأربعاء الماضي في جلسة مساءلة برلمانية على عدم الجهوزية حيال ما حصل عندما سقطت كابل بيد «طالبان»، إذ كان يقضي إجازة في جزيرة كريت اليونانية. وكشف الوزير أن الحكومة اعتقدت أنه من غير المرجح سقوط كابل في عام 2021، وبدأت الاستعداد لعمليات إجلاء محتملة في يونيو (حزيران)، وحول احتمال بقائه في منصبه، أشار المتحدث باسم رئاسة الحكومة إلى أن رئيس الوزراء بوريس جونسون، لديه «ثقة كاملة» براب، وأنه لا توجد خطط لإجراء تعديل وزاري.
من جانب حزب العمال البريطاني المعارض، كان لافتاً المقال الذي كتبه رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، في صحيفة «الإندبندنت»، في نهاية أغسطس الماضي، حيث اعتبر أن التخلي عن أفغانستان وشعبها خطوة مأساوية وغير ضرورية، متسائلاً عما إذا كان الغرب قادراً على التعلم من تجربته والتفكير بشكل استراتيجي، وتحديد مصالحه الاستراتيجية، ومن ثم الالتزام استراتيجياً على هذا الأساس؟
واعتبر أن التسييس العميق للسياسة الخارجية وقضايا الأمن سيؤدي إلى أفول القوة الأميركية، وعلينا أن نقوم ببعض التفكير الجدي بالنسبة لبريطانيا الموجودة حالياً خارج أوروبا، التي تعاني أيضاً بسبب إنهاء أعظم حلفائنا مهمة أفغانستان من دون إجراء استشارات تذكر معنا، ومع أننا لا نرى هذا التهديد حتى الآن، فإننا مهددون بالنزول إلى «دوري» الدرجة الثانية للقوى العالمية. ربما لا مانع لدينا في ذلك غير أننا يجب على الأقل أن نأخذ نحن القرار بهذا الخصوص بصورة متعمدة.
ذاك هو الموقف البريطاني من قرار الانسحاب الأحادي للولايات المتحدة من أفغانستان، والمخاوف من تداعيات ذلك على مكانة بريطانيا في موازين القوى الدولية بالنزول إلى مرتبة الدرجة الثانية، وفق تعبير بلير، وتواري شعار «بريطانيا العالمية» التي تساءلت عنها تيريزا ماي، التي كان يطمح جونسون إلى تحقيقها ما بعد «بريكست».
من الجانب الآخر، اختلف الوضع وردود الفعل على مستوى الدول الـ27 في الاتحاد الأوروبي، وبالذات من قبل الثنائي فرنسا وألمانيا، الدولتين القياديتين في الاتحاد الأوروبي، لكون فرنسا هي الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي، وألمانيا هي أكبر القوى الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي.
يعود الفضل لامتلاك فرنسا للسلاح النووي إلى الجنرال ديغول، الذي اعتبر امتلاك بلاده ذلك يساعد على استقلالية القرار الفرنسي في علاقته بالولايات المتحدة والغرب بصفة عامة، ويحكي بهذا الصدد أن الرئيس جون كيندي، سعى إلى إقناع ديغول بالتخلي عنه لتكاليفه الباهظة، وأنه بإمكانه الاعتماد على المظلة النووية الأميركية، خصوصاً إبان الحرب الباردة، وكان رد الجنرال ديغول على هذا العرض بالقول للرئيس كيندي: هل الولايات المتحدة ستكون مستعدة إذا هاجمها السوفيات للتضحية بواشنطن للدفاع عن باريس؟ بالطبع لن يحدث ذلك، ولذلك من الأهمية بمكان امتلاكنا سلاحنا النووي لندافع عن أنفسنا إذا تطلب الأمر.
وتعد فرنسا من الدول الأعضاء المؤسسين لحلف الناتو، وجعلت باريس مكاناً لمقره الرئيسي، لكن الرئيس ديغول منذ البداية كان رافضاً للوزن الكبير الذي نالته الولايات المتحدة في مؤسسات الحلف، ومع صعود فرنسا كقوة نووية لم يرغب ديغول آنذاك في أن يترك صلاحية اتخاذ القرار باستخدام الأسلحة النووية للآخرين، ولذلك قرر عام 1966 الانسحاب من الهيكل العسكري للحلف، معللاً قراره بالقول «إن ما يهمني هنا هو إعادة سيادة فرنسا الوطنية إلى وضعها الطبيعي». وبسبب هذا القرار تم نقل المقر الرئيسي إلى بروكسل. وخلال الحملة العسكرية على العراق في عهد الرئيس بوش الابن عام 2003، وقف الرئيس شيراك، وهو ديغولي مخضرم، إذا جاز لنا التعبير، برفض الغزو الأميركي للعراق بالقول «لا نرى أن هناك سبباً يدعونا إلى تغيير منطقنا، وترك منطق السلام إلى منطق الحرب».
وعادت فرنسا مجدداً إلى الهيكل العسكري لحلف الناتو في عهد الرئيس ساركوزي في عام 2007، ولم تتم المصادقة على القرار بسهولة في الجمعية الوطنية الفرنسية.
ومع الأزمة الأفغانية في الوقت الحاضر، نادت بعض الأصوات الديغولية بالعودة إلى الانسحاب مجدداً من الحلف، بينما موقف الرئيس ماكرون يتمسك بعضوية فرنسا في الحلف، وفي الوقت نفسه بضرورة بناء قوة عسكرية أوروبية تستطيع الدفاع عن مصالح أوروبا ومكانتها بين القوى العالمية، وهذا يحظى بتأييد قوي من حليفة فرنسا المباشرة ألمانيا الاتحادية، وقبول عام من بقية دول الاتحاد الأوروبي.
وقد صرح مؤخراً بهذا الصدد مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي السيد بوريل، الذي وصف الانسحاب من أفغانستان بالفوضوي، ودعا إلى إنشاء قوة دفاع أوروبية مشتركة، حيث إن هناك مخاوف وفق بعض المراقبين من أن يكرس الرئيس بايدن اهتمامه بمصالح أميركا أولاً في الداخل في تحديث البنية التحتية الأميركية وتداعيات أزمة «كورونا»، وعلى مستوى السياسة الخارجية مواجهة خطر الصعود الصيني، وأن يتم كل ذلك على حساب اهتمامه بأمن أوروبا ومصالحها.