بقلم: د. محمد علي السقاف
للأحداث التاريخية رمزيتها عند الأفراد، كما هي عند الدول، ففي مطلع هذا الأسبوع من سبتمبر (أيلول)، يعود الرئيس الفرنسي مجدداً في زيارة إلى لبنان، كما وعد بالعودة إليها في زيارته الأولى، بعد كارثة مرفأ بيروت، وهذا الاهتمام بلبنان من قبل جميع الرؤساء الفرنسيين من ميتران إلى شيراك، والآن ماكرون، هو امتداد لاتفاقية «سايس بيكو» لعام 1916، وتفسير آخر لأسباب مواقف تركيا إزاء فرنسا، خصوصاً في الأزمة الحالية في شرق البحر الأبيض المتوسط بخصوص استغلال الثروة الغازية في المنطقة.
فإذا كان الصراع التركي - اليوناني له جذور تاريخية، خصوصاً في فترة الدولة العثمانية، فإن غياب التضامن الجماعي مع اليونان من قبل بعض دول الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا، التي كانت مع تركيا في معسكر واحد ضد بقية دول التحالف في فترة الحرب العالمية الأولى، التي اندثرت فيها الإمبراطورية الألمانية مع الإمبراطورية العثمانية، أم أن اختلاف المواقف هو توزيع أدوار بين دول الاتحاد الأوروبي، إزاء أزمة شرق البحر الأبيض المتوسط بتبني فرنسا موقفاً متشدداً مع تركيا، وفق التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون، الذي برر موقفه الصارم من تركيا بالقول «إن الأتراك لا يدركون ولا يحترمون سوى ذلك. ما فعلته فرنسا هذا الصيف (بتحريك بعض القطع البحرية في المنطقة) كان مهماً. إنها سياسة تتعلق بوضع خط أحمر»، في المقابل اتخذت ألمانيا موقف «الحياد» في بحثها عن حل وسط بين طرفي النزاع التركي - اليوناني لتفادي مواجهة عسكرية، وازدياد التوتر في المنطقة.
وستتضح الأمور برمتها في مواقف دول الاتحاد الأوروبي في مرحلة عدم تجاوب الجانب التركي إلى حل نزاعه مع اليونان، عبر الجلوس على طاولة التفاوض، بدلاً من خيار تصعيد التوتر بينهما، مع احتمال دخولهما في مواجهة عسكرية، فقد لوح الاتحاد الأوروبي بعقوبات قد يتخذها ضد تركيا، حيث كشف مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، عن الإعداد لقائمة عقوبات تستهدف أنقرة ستتم دراستها في 24 سبتمبر، في حال لم توافق تركيا على تخفيف التوتر مع اليونان. وأشار بوريل إلى أن العقوبات ستطال أشخاصاً وسفناً تركية، وحتى منع أنقرة من استخدام المرافئ الأوروبية، ووصف بوريل تموضع البواخر الحربية التركية قبالة الشواطئ القبرصية واليونانية بأنه «وضع في غاية الخطورة»، وكأن بوريل بهذا التهديد أراد، مثل الرئيس الفرنسي، إظهار «العين الحمراء» لتركيا، وفق التعبير العربي الدارج، لتتراجع عن مواقفها المتصلبة.
عداء أردوغان نحو الدول الغربية، مثل أغلب القادة الأتراك الذين خلفوا الزعيم التركي أتاتورك، مؤسس الدولة التركية، يعود إلى شعورهم بالخزي والعار بقيام بريطانيا وفرنسا، عبر اتفاق «سايس - بيكو» بالتقاسم فيما بينهما لمناطق نفوذها في الهلال العربي الخصيب، وقيامهم بتكريس هذا الواقع بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى من خلال «معاهدة سيفر» (فرنسا) في أغسطس (آب) عام 1920، وهذا ربما يفسر حساسية تعامله مع فرنسا، لكون اتفاقية الخزي والعار، كما تسمى، وقعت في سيفر بفرنسا.
واعتبرت تركيا أن معاهدة سيفر لاغية، ولا تعترف بها، وأقرت فقط باعترافها بمعاهدة لوزان الموقع عليها في 24 يوليو (تموز) 1923، التي أعادت الاعتبار لتركيا بانتصار قوات المقاومة التركية، التي كان يقودها كمال أتاتورك ضد القوات الفرنسية واليونانية والإيطالية، في الحرب اليونانية التركية في الفترة 1919 - 1920، التي على أثرها تأسست الدولة التركية الحديثة، التي ورثت محل الإمبراطورية العثمانية.
وبذلك اعتبرت تركيا إردوغان، اتفاقية لوزان، أنها مثلت انتصاراً دبلوماسياً على الغرب، ومسحت بذلك من تاريخهم اتفاقية سيفر، اتفاقية الخزي والعار، لأنها فرضت عليهم بالقوة من قبل القوى الغربية التي قلصوا مساحة الدولة من 3 ملايين كم 2 إلى 7800000 كم 2، بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وتركيا كانت دولة لوحدها في إطار الإمبراطورية العثمانية، وهي الآن بعد اتفاقية لوزان أصبحت دولة معترف بها، وتدعي أنَّ لها الحقوق التاريخية التي كانت تقوم عليها الإمبراطورية العثمانية! وقد قام إردوغان بترجمة ذلك في الاتفاقات الأخيرة التي وقعها مع حكومة فايز السراج الليبية.
وقد تعمد الرئيس طيب إردوغان توقيع الاتفاقين مع فائز السراج باستدعاء مكان تاريخي في «طولمة باغجة»، مقر الحكم لسلاطين الدولة العثمانية.
ومن المنطلق نفسه، نشر مؤخراً نائب سابق بالبرلمان التركي عن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، والمقرب من الرئيس أردوغان، خريطة لـ«تركيا الكبرى» تعود إلى عهد السلاجقة، وانتصارهم على الإمبراطورية البيزنطية في معركة «ملاذ كرد» عام 1071، وذلك بمناسبة الاحتفال بذكرى المعركة التي تصادف السادس والعشرين من أغسطس. وأشارت هذه الصحيفة في عددها بتاريخ 29 أغسطس لتزامن نشر الخريطة مع التوتر الشديد بين تركيا واليونان، بسبب النزاع على موارد النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، وتظهر ما سماه «تركيا الكبرى» التي تضم مساحات واسعة من شمال اليونان، وجزر بحر إيجة الشرقية، ونصف بلغاريا، وقبرص، وأرمينيا في مجملها، ومناطق واسعة من جورجيا والعراق وسوريا.
إذا كانت تركيا هكذا تحلم بإعادة إنتاج الإمبراطورية العثمانية بشكل علني، فما الاختلاف بينها وبين محاولة إيران إيضاً بسط هيمنتها على بقية المناطق العربية، وهل أنقرة وطهران متحالفتان أم متنافستان في علاقاتهما، كما عنونت بذلك «اللوموند الدبلوماسي» في يناير 2017.
هناك أوجه اختلاف بين النظامين في تركيا وإيران، حيث إن رئيس الجمهورية التركية إردوغان منتخب، بينما في الحالة الإيرانية ولاية الفقيه الممثلة حالياً بالسيد علي خامنئي، الذي يعتبر قائد الثورة الإسلامية، سلطة قراراته تفوق تلك التي يمتلكها الرئيس روحاني رئيس الدولة المنتخب مباشرة من قبل الشعب، وهنا يتبين الاختلاف بين تركيا كدولة ذات نظام علماني، وإيران ذات نظام ثيولوجي.
للتغلغل في العالم العربي، تسعى تركيا إلى استعادة نفوذها عبر إعادة موروثها الاستعماري في ظل الدولة العثمانية، ليس بصفتها الدولة القومية، وإنما أيضاً على أساس الخلفية الفكرية الإسلامية لحزب «العدالة والتنمية»، ولقيادته السياسية، بينما يتجسد الحلم الإيراني بما تسميه مشروع الحكومة العالمية للإسلام، وهو بمنزلة إعادة صياغة لفكرة «الشاهانشاهية» تحت غطاء إسلامي.
وللحديث بقية