بقلم:د. محمد علي السقاف
في مقالنا الأخير بعنوان «الحلم الصيني» باستعادة تايوان، تناولنا إصرار الصين الشعبية على استعادة سيادتها على الصين الوطنية، وأنها هي الوحيدة الممثلة للصين، وليست الصين الوطنية (تايوان)، وعليه من المفترض أن تحتل هي المقعد الدائم لمجلس الأمن الدولي، بديلاً عن الصين الوطنية.
ولم يتحقق لها هذا المطلب إلا بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي برقم 2758 في عام 1971، تبعه اعتراف رسمي من الولايات المتحدة في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1979. وجاء هذا الاعتراف الأميركي المتأخر بنظام ماو تسي تونغ نكاية في الاتحاد السوفياتي آنذاك في أوج الحرب الباردة، لمحاولة إبعاد الصين عن النظام السوفياتي، مع أن كليهما ينتمي إلى المعسكر الاشتراكي.
قد يتبادر إلى ذهن عدد من القراء عن أسباب المقاربة بين تجربتي الصين وتايوان والألمانيتين؟
هناك عدة مقاربات بالإمكان إجراؤها بين التجربتين، سواء من ناحية توقيت نشوئهما، أو من ناحية جدلية احتكار التمثيل للدولة وللشعب لكل منهما.
إذا كانت ألمانيا استطاعت في نهاية الأمر تحقيق وحدتها، هل يمكن أن تنجح الصين أيضاً في تحقيق حلمها باستعادة تايوان، كما استعادت الألمانيتان وحدتهما أم أن أبعاد التجربتين مختلفة تماماً؟
شهدت الحرب العالمية الثانية بداية حقبة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، وتطور مفاهيم مبادئ القانون الدولي، بفضل ما أضافه إليها ميثاق الأمم المتحدة.
فقد أعادت الحرب العالمية الثانية توزيع القوى في العالم بتراجع مكانة بعض القوى الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا، وصعود قوى عظمى جديدة مثل الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى اندحار قوى عظمى أخرى مثل ألمانيا النازية واليابان اللتين منيتا بدمار واسع وخسائر فادحة. من هنا تظهر المقاربة الأولى في التوقيت بين التجربتين الصينية والألمانية.
فقد أدى استسلام وهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية إلى تخليها عن احتلالها للصين الذي دام نحو 50 عاماً. وبالتحرر من الاحتلال الياباني تمكنت الصين الوطنية بدعوة غربية أن تصبح إحدى الدول المؤسسة للأمم المتحدة، وتكون ضمن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، مع حق استخدام النقض مثل بقية الأعضاء الدائمين.
مقابل الصين الوطنية تمكن الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ من إعلان جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر (تشرين الأول) 1949. وبذلك أصبح لدى الصين دولتان، إحداهما تتبع المعسكر الغربي، والثانية تتبع المعسكر الشرقي.
في الحالة الألمانية تسلسل الأحداث التاريخية كان مختلفاً تماماً عن وضع الصين وتجزئتها إلى دولتين. قُسمت ألمانيا بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية إلى قسمين؛ قسم غربي تم توزيعه بين الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا. والقسم الشرقي كان من نصيب الاتحاد السوفياتي. انبثق من القسم الغربي في 1949 جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) ذات التوجه الرأسمالي والنظام البرلماني الغربي.
في مقابل ذلك، تأسست جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية) وهي جمهورية ذات توجه ماركسي يسيطر فيها نظام الحزب الواحد ممثلاً بالاتحاد الاشتراكي الألماني.
ألمانيا الغربية قبلت عضويتها في السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي والتحقت بعضوية «الناتو». في حين ألمانيا الشرقية كبقية دول أوروبا الشرقية التحقت بمنظمة «الكوميكون» وحلف وارسو، التنظيمين اللذين تم حلهما بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي.
وخلافاً للحالة الصينية، فإنَّ الألمانيتين تم قبول عضويتهما في الأمم المتحدة بتاريخ 18 سبتمبر (أيلول) 1973، أي بعد 28 عاماً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومنذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة، ما تثير عدة تساؤلات حول أسباب هذا التأخير بقبول عضويتهما، والمفارقة بين الوضع الألماني ووضع دولتي الصين.
من الأسباب الرئيسية، التي يمكن الإشارة إليها من خلال توضيح إجراءات قبول الأعضاء الجدد في الأمم المتحدة، التي تتطلب وفق نصوص الميثاق، الإجماع بالموافقة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي. فكان من الواضح أن ذلك الإجماع غير متوفر في ظل ظروف الحرب الباردة بين الشرق والغرب. فإذا أرادت ألمانيا الشرقية تقديم طلب انضمامها إلى الأمم المتحدة، وصوّتت الدول الغربية الثلاث دائمة العضوية (الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا)، فسيعني ذلك اعترافاً بألمانيا الشرقية على حساب حليفتهم ألمانيا الغربية، والعكس أيضاً صحيح، في حال ألمانيا الغربية إذا تقدمت بطلب العضوية في الأمم المتحدة سيفهم منه أن الاتحاد السوفياتي اعترف بها وتخلى عن حليفته ألمانيا الشرقية.
لذلك كان من الضروري التوصل أولاً إلى تطبيع العلاقات بين الألمانيتين وإزالة حالة التوتر بينهما، وهذا بدوره أيضاً كان مرتبطاً بمدى تحسن العلاقات بين الدول الكبرى في مجلس الأمن.
فعلى المستوى الألماني لم يكن هناك توافق بين الائتلاف الحزبي الحاكم، وأحزاب المعارضة في ألمانيا الغربية، الذي أبدى عدد من قياداتهم تحفظهم الشديد في تطبيع العلاقات مع ألمانيا الشرقية.
في نهاية المطاف، توصل الطرفان الألمانيان إلى تفاهمات في إطار حكم فترة المستشار الألماني فيلي برانت، بما سمي سياسة «أوسبوليتيك Ostpolitik» السياسة البراغماتية الواقعية.
وكان لافتاً موقف الصين الشعبية إزاء المسألة الألمانية، حين عرضت في مجلس الأمن الدولي. فقد شدد مندوب الصين الشعبية على أهمية التوصل إلى حل عاجل للأزمة الألمانية، بما يفي بتطلعات الشعب الألماني؛ حيث أكد أن الشؤون الألمانية «يجب حلّها عبر الشعب الألماني نفسه، وذلك بواسطة آلية التفاوض».
بالنسبة لألمانيا الشرقية قبول عضويتها في الأمم المتحدة يمثل انتصاراً كبيراً لها على كالمشتري الدولي، بينما انتعشت بعض الأطراف الألمانية الغربية من هذا الأمر لكون قبول الدولتين بشكل منفصل يعتبر إنجازاً لألمانيا الشرقية بمساواتها بألمانيا الغربية. وكان تصريح وزير خارجية ألمانيا الغربية لاحقاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 1973 يعكس صعوبة تسليم ألمانيا الغربية بقبول الدولتين الألمانيتين في الأمم المتحدة، وإن اعتبر ذلك اليوم بمثابة «يوم تاريخي... ولم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لنا»، نظراً للصعوبات التي واجهت الحكومة في إقناع المعارضة بالقبول بالأمر الواقع.
وقد واجهت الدول العربية أزمة في تعاملها مع تعقيدات العلاقات بين الألمانيتين، وخاصة الدول العربية التي كانت تربطها علاقات بالكتلة الشرقية. فقد أدى كشف صفقة أسلحة ألمانية غربية لإسرائيل، في إطار ما سمي التعويضات لضحايا النازية، إلى اتخاذ مصر قراراً بدعوة مستشار ألمانيا الشرقية حينها للقيام بزيارة رسمية إلى القاهرة، ما أدى إلى رد فعل من ألمانيا الغربية بقطع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع مصر، تبعها قرار من جامعة الدول العربية تضامناً مع مصر باستدعاء سفرائها من ألمانيا الغربية لفترة زمنية في منتصف الستينات.
الموقف الألماني الغربي استند إلى مبدأ «هالشتاين» الذي يقوم على عقاب الدول التي تعترف بألمانيا الشرقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية معها.
وهذا الموقف ذاته التي اعتمدته أيضاً الصين الشعبية في علاقة الدول مع تايوان.
وبالطبع بسبب اختلاف موازين القوى بين الحالة الصينية والألمانيتين، لكون وضع الصين كدولة عظمى ودولة نووية، إضافة إلى عضويتها في مجلس الأمن بين الأعضاء الدائمين أعطيت لمواقفها إزاء تايوان أبعاد جيوسياسية وجيواستراتيجية، لا شك أن مرحلة الحرب الباردة الأولى تختلف عن الحرب الباردة الجديدة التي تتشكل ملامحها مجدداً.
وللحديث بقية...